Site icon IMLebanon

نزاع أميركي – روسي مضبوط

كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:

كان لا بدّ لجولة وزير الخارجيّة الأميركية ريكس تيلرسون أن تترك خلفها ذيولاً سلبية تمخَّضت عبر رسائل ميدانيّة عنيفة، خصوصاً من جانب روسيا التي أرادت أن تقول للولايات المتّحدة الأميركية: أنا هنا في قلب الشرق الأوسط، أُمسك بالعديد من المفاتيح، وبات مستحيلاً على أيّ جهةٍ مهما كان موقعها الدولي كبيراً أن تفتح الأبواب في المنطقة من دون الاستعانة بمفاتيحي.

تيلرسون الذي كان قد عاد من أنقرة بعد اختتام جولته الأولى في المنطقة، بدا راضياً عن مهمّته، والتي تجلّت خصوصاً في استعادة تركيا من خلال صفقة مُرضية على حساب الحلم الكردي بإنشاء دويلته أو منطقة حكم ذاتي تتمتَّع باستقلالية واسعة.

تيلرسون الذي استقبله تحليق طائرة من دون طيار سورية أو إيرانية لا فرق، في الأجواء الإسرائيلية قبل إسقاطها، ومن ثم إسقاط طائرة الـ أف 16 الحربيّة الإسرائيلية المتطوّرة، أنهى جولته بإعادة تركيا الى حضن حلف شمال الأطلسي واستعادة زخم التعاون مع الدول الأعضاء في الحلف، وفي مقدّمهم الولايات المتحدة الأميركية.

لكنّ الردّ جاء سريعاً من خلال استمالة روسيا وإيران للأكراد، والتفاهم الإيراني مع دمشق لإرسال قوات محسوبة على إيران الى الحدود السورية – التركية في عفرين للوقوف في وجه أيّ تقدّم عسكري تركي. الرسالة كانت واضحة.

وفي الوقت نفسه، بدأ التمهيد الناري العنيف لاقتحام الغوطة الشرقية وتأمين العاصمة دمشق بشكل كامل ونهائي.

في البداية تجاهلت روسيا وإيران غزو تركيا لعفرين، ولكن وبعد زيارة تيلرسون بَدا أنّ المشوار التركي داخل سوريا لن يكون سهلاً، وأنّ «شراكة» أنقرة مع موسكو وطهران أجهَضها التقارب الأميركي – التركي.

لا بل أكثر، فإنّ الأوساط الديبلوماسية تتحدَّث عن إرسال موسكو خلال الأيام الماضية سلاحاً نوعياً الى وحداتها العسكرية في سوريا في رسالة أخرى إلى واشنطن تقول: «صحيح أنّنا نفّذنا انسحاباً أعلنّا عنه، ولكنّه انسحاب شكلي ولأغراضٍ إعلامية روسية داخلية، وهذا لا يعني أننا نعتزم الانسحاب الفعلي من الميدان السوري، أو الاستقالة من دورنا وترك مصالحنا».

لكنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يُدرك مخاطر إثارة روسيا، وهو ما كان اختبره سابقاً مع إسقاط الطائرة العسكرية الروسية وما تلاه، يعرف أيضاً المردود الداخلي الشعبي الكبير لاستمرار قتاله ضدّ الأكراد.

ففي 7 حزيران 2015، حصل حزب «العدالة والتنمية» الذي يترأسه اردوغان على نسبة 40,80 % في الإنتخابات، وسرعان ما أعلن أردوغان عن تنظيم انتخابات أخرى بعد أشهر معدودة. وخلال هذه الفترة باشر بعمليات أمنيّة وعسكرية ضدّ الأكراد في شرق تركيا وجنوبها. وفي الإنتخابات الثانية التي حصلت في تشرين الثاني من العام نفسه، إرتفعت نسبة المقترعين لصالح حزبه الى 49,50%، ما جعله قادراً على تشكيل حكومة بمفرده.

أمّا اليوم وإثر عملية عفرين، أشار آخر استطلاعات الرأي الى أنّ شعبية أردوغان وصلت الى 55%، ما يجعل حملته الرئاسيّة أكثر من مضمونة.

صحيح أنّ الخسائر التركية في عفرين لا تزال معقولة مع سقوط 31 قتيلاً للقوة التركية، والتي يبلغ قوامها 25 ألف جندي، إلّا أنّ الوضع الاقتصادي بدأ يُنذر بعواقب صعبة وهو يدفع تركيا أكثر فأكثر إلى الارتماء في أحضان الولايات المتحدة الأميركيّة لمساعدتها من خلال صندوق النقد الدولي.

لكنّ تركيا تُمسك بورقة أكثر أهميّة تُثير العواصم الغربية. فخلال الأشهر الماضية سجَّلت الدول الأوروبية عودة زهاء 1200 داعشي الى أراضيها عبر تركيا. ومن أصل 129 أميركياً كانوا قد انضمّوا الى «داعش» في سوريا عاد 7 إضافة الى 60 كندياً من أصل 180.

بالطبع، إنّ معظم هؤلاء سُجنوا أو اختفوا، لكنّ بعضهم ما زالوا متوارين عن الأنظار. والمهمّ أنّ هناك أعداداً كبيرة من الداعشيّين، يحملون الجنسيات الروسية والطاجكيّة والأذربيجانيّة والكازخستانيّة، يُحاولون العودة إلى بلادهم عبر البوابة التركية.

المرصد السوري كان تحدَّث نقلاً عن مصادر موثوقة أنّ عدداً من قياديّي «داعش» عبروا الى تركيا، ومنها الى بلدان أوروبية وعربية. كما أعلنت المجموعة الاستراتيجية الدولية من واشنطن عن عودة زهاء 900 داعشي تركي الى بلادهم.

وتُدرك أنقرة أنّ هذا الواقع يُلزم العواصم الغربيّة، كما العاصمة الروسية، تفعيل قنوات التنسيق مع تركيا على المستوى الأمني.

وليس بعيداً عن وحول عفرين وجحيم الغوطة، تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إتمام ما تعتبره «صفقة القرن»، أو التسوية السلميّة بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين.

وخلال محاضرة للسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي ألقتها في معهد السياسة في جامعة شيكاغو، كشفت أنّ «صفقة القرن» وصَلت الى خواتيمها، وأنّ العمل جارٍ لوضع اللمسات الأخيرة على خطة السلام، مشيرة الى أنّ هذه الخطة لن يُحبّها ولن يكرهها الطرفان.

لكن من السذاجة الاعتقاد بأنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية ليس مطلعاً على الخطوط العريضة للخطة. فبنيامين نتنياهو الغارق في تحقيقات فساد لا يزال حزبه يتمتّع بتأييد سياسي واسع. ويتحضّر رئيس الحكومة الإسرائيلية للقاء ترامب على هامش انعقاد مؤتمر «إيباك» بعد نحو أسبوع، ما يعني أنّ «مسرحية» تُحضّر لتمرير التسوية وإظهارها كأنّها على حساب مصالح الطرفين، فيما هي في الحقيقة تظلم الحقوق الفلسطينيّة.

ويُريد ترامب، إضافة الى تحقيق مكاسب قوية في الشرق الأوسط، تسجيل نقاط داخليّة في إطار صراعه المفتوح.

فمدير معهد السياسة في جامعة شيكاغو دايفيد اكسليرود، والذي كان مستشاراً للرئيس السابق باراك أوباما، كان حاضراً ومستمعاً لنيكي هايلي حين قالت: «إنّ الرؤساء السابقين عجزوا عن تجاوز مخاوفهم وتردّدهم، معتقدين بأنّ السماء ستسقط في حال تمّ نقل السفارة الأميركيّة الى القدس. وها إنّنا نقلنا السفارة ومن دون أن يحصل شيء والسماء لا تزال في مكانها.

والتوقيت الذي اعتمده البيت الأبيض باعتزامه فتح السفارة في القدس في الذكرى السبعين لِما باتَ يُعرف بالنكبة العربية في شهر أيار المقبل، يُشير بوضوح إلى ملامح الصفقة واتّجاهها، وإلى أنّ إعلانها بات قريباً جداً».

وتُشير الأوساط الديبلوماسية الى طلب جاريد كوشنر باسم الرئيس الأميركي من أعضاء مجلس الأمن دعم الخطّة التي ستُطرح، والتي وصفها بأنّها ليست منحازة لصالح إسرائيل لا بل إنّها صعبة على الطرفين.

وكلام كوشنر واضح ولا يحتاج الى تفسير لناحية الظّلم الذي سيَلحق بالحقوق الفلسطينيّة، إضافة إلى سَعي واشنطن لإشراك الأمم المتحدة في الضغط على الفلسطينيّين والأطراف التي ستعترض، وفي طليعتها إيران وحلفائها.

لذلك، باشر الجيش الإسرائيلي بتنفيذ خطوات استباقيّة على الأرض كخطوة احترازية. فهو شدَّد من تطويقه لغزة، وكثّف من مناوراته في المنطقة الشمالية، حيث كان طابع هذه المناورات دفاعياً وهجومياً على السواء، في وقتٍ تستعدّ إسرائيل لمناورة ضخمة مشتركة مع الجيش الأميركي تُحاكي مواجهة استهداف «حزب الله» لإسرائيل بالصواريخ.

وبخلاف الرسائل العسكرية التي تَجهد إسرائيل لإبرازها، لكنّها تُدرك أنّ الدخول في حرب مع «حزب الله» مسألة صعبة ولا تَحظى بالظروف الملائمة. ذلك أنّه بات ثابتاً أنّ أيّ اهتزاز أمني عند الحدود اللبنانية سيَعني تلقائياً دَمج الحدود اللبنانية والسورية، وبالتالي فتح أبواب من الصعب جداً إعادة إغلاقها.

ربما لذلك تعمل إسرائيل على الإمساك بالساحة الجنوبية لسوريا، من خلال دعمها لأكثر من سبعة فصائل سوريّة معارضة من خلال تزويدهم بالسلاح والمال.

وهذا الواقع لا تُعارضه روسيا التي تهتمّ بفرض دورها على الأميركيّين في المنطقة من خلال جبهات سوريا المفتوحة في الغوطة وعفرين.

يبقى أن نُشير الى عدم المبالغة في تصوير المناكفات الروسية – الأميركية في سوريا. فهو تنافس أكثر مما هو حرب باردة أو مباشرة. إذ إنّ التفاهمات حول الخطوط العريضة مضمونة، والنزاع حول توسيع حدود النفوذ مسموح وقائم ولكنّه لن يتعدّى الحدود المتّفق عليها.

والمشكلة أنّ الفاتورة المكلفة لهذا التنافس أو النزاع المضبوط يدفعها أبناء الأرض والأطراف المحليون. أمّا القوى الكبرى وإن كانت تعتمد سياسة إعلامية ترتكز على حقوق الإنسان وحمايته، لكنّها عملياً لا تهتمّ سوى بمصالحها، وبمصالحها فقط.