كتب محمد نزال في صحيفة “الأخبار”:
كان نائباً قبل «النكسة». ما زال نائباً. نحو 60 عاماً متّصلة مِن النيابة. هو البرلماني المُمَارِس الأعتق على وجه الأرض. لم يكن السيّد حسن نصرالله ولد بعد عندما قدّم أوراق ترشّحه للانتخابات. هو النائب الوحيد حاليّاً، مِن بين الأحياء، الذي أصبح نائباً وفق «قانون الستّين». الآن سيستريح. لن يترشّح مُجدّداً، وإن كان في نفسه مِنها، لكنّها «الظروف القاهرة».
تعِبَ جسد الرجل. في عقده التاسع جاءت لحظة القرار: هذا يكفي. نحو ستّة عقود مِن النيابة تكفي. هو عبد اللطيف الزين، الذي، يوم كان صغيراً، كانت تناديه أمّه «يا لطيف». الآن، يُحدّد لك موعداً لمقابلته، بمنتهى اللطف، فتذهب إليه، فلا يذكر شيئاً. يعتذر. تعِبَ الرجل. أن تحادثه اليوم، ولو قليلاً، فأنت أمام حدث تاريخي في حياتك. مَن سيخلفه نائباً؟ الجواب ليس مُهمّاً، طالما أنّ الخلف، بالحدّ الأدنى، لن يكون أفضل مِن السلف. مَن يُراهن؟ إن هي إلا أسماء تتبدّل في بلادنا. أبعد مِن ذلك، الراجح أنّ خليفته لن يكون أفضل مِنه، إذ تغيّر العالم، والنائب أصبح غير النائب، فليس متوقّعاً أن يتأبط الجديد أوراق معاملة مواطن، بنفسه، إلى دائرة حكوميّة لإنجازها. عبد اللطيف كان يفعلها. كثيرون، بعيداً عن أبناء منطقته، في النبطيّة، لا يعرفون شكله. كثيرون ولدوا وماتوا، وربّما أنجبوا، وهو في نيابته، ومع ذلك لم يسمعوا صوته. لن تجد له سجالات تلفزيونيّة في السياسة. نجا مِن هذه الظاهرة. نأى بنفسه. لكنته، وهو العاملي، ليست عامليّة. ذلك أثر مدرسة الحكمة، البيروتيّة، على لسانه. هناك حيث وضعه والده، بنظام داخلي، ومعه أخوته. كانوا عشرة أخوة. اليوم هو البقيّة الباقية مِن ذكور «يوسف بك» (النائب السابق الذي ورّث ابنه النيابة). الوالد، القاسي جدّاً، كما يصفه هو، إنّما «تلك القسوة جعلتني رجلاً». نحن في أربعينيات القرن الماضي. أثر علاقته الطيّبة، وعلاقة والده مِن قبل، بالفرنسيين ما زال ظاهراً في كثير مِن تفاصيل حياته. تركة المُعلّم فان سيغاريه، الفرنسي الذي أحضره والده إلى بلدة كفررمان ليُعلّم أولاده، ما زالت حاضرة. لم تكن العائلة مُحاربة للانتداب نضاليّاً. بالتأكيد، ليس أدهم خنجر المثل الأعلى للزين.
كان نائباً قبل أن يُقتَل تشي غيفارا، في بوليفيا، وما زال نائباً. عندما أصبح نبيه برّي رئيساً لمجلس النوّاب، قبل نحو ربع قرن، كان عبد اللطيف نائباً مِن أكثر من ربع قرن. كان نائباً قبل كثير مِن الأحداث التي غيّرت وجه لبنان والعالم، أمّا هو، في منصبه، فلم يتغيّر. وحدها ملامح وجهه تغيّرت. صوته تهدّج. مشيته ترنّحت. لكنّه، رغم كلّ شيء، هو أحد أكثر النوّاب، إلى الآن، مداومة في مكتبه النيابي.
يُحدّد لك موعداً في بيروت، عند الساعة العاشرة صباحاً، وهو القاطن في بلدة كفررمان الجنوبيّة، فأيّ ساعة تراه يستيقظ؟
يُحدّد لك موعداً في بيروت، عند الساعة العاشرة صباحاً، وهو القاطن في بلدة كفررمان الجنوبيّة، فأيّ ساعة تراه يستيقظ! ما زال أنشط مِن بعض «فتيان» المجلس. في عقده التاسع هو أحد أكثر الملتزمين، مِن بين النوّاب، بعمله البرلماني التقليدي. هذا الآن، أمّا سابقاً، فكان بحكم الطبيعة أنشط… ولك أن تتخيّل. مواطن مِن بلدته الجنوبية يروي: «في الحرب الأهليّة، عام 1977 تحديداً، تعرّضت لإصابة. رفضت المستشفى في بيروت معالجتي، فاستدعينا الأستاذ عبد اللطيف، وبالفعل حضر. أخبره والدي أنهم يُريدون المال، فقال: «بدهم صرامي». دخل قسم الطوارئ، فقال له الطبيب: يجب أن نبتر رجله. فقال له: «بقص رقبتكم… يلا بلشوا فيه عالجوه». اقترب مني وربت على كتفي، قائلاً: «ما تخاف حبيبي». تسأل تلك الأغنية الساخرة: «لشو التغيير». حقّاً، لِمَ التغيير؟ عبد اللطيف الزين، بذاته، قضيّة دراسيّة في العلوم الاجتماعيّة. في السياسة. في الفلسفة أيضاً. التغيير في الوجوه؟ هذا هو التغيير؟ أشكليّة هي، ذوقيّة؟ كيف يكون للتغيير معنى إذا ما كان دون الثورة الشاملة؟ تلك إشارة إلى العبث الذي نعيشه، في هذه البلاد، مع كلّ انتخابات.
هو عبد اللطيف بك، ابن البك، ابن الإقطاعي الذي نشأ على صراع عائلته مع آل الأسعد، تلك العائلة الإقطاعيّة هي الأخرى. نبيه برّي، الذي كان يُفاخر قبل أيّام بأنّه قضى على الإقطاع في الجنوب، على نهج السيّد موسى الصدر، كان هو نفسه مَن تكفّل حمل الزين في «بوسطته» الانتخابيّة، مرّة تلو أخرى، منذ انتهاء الحرب الأهليّة. ليس للزين سوى ابنة واحدة. ما مِن ذكور. لا أحد أخذ مِن حبّه لزوجته سوى تلك الابنة. إنّها أنثى. ليست ذكراً. هنا، سيرتبك التوريث السياسي. ليس بالحبّ وحده تورّث حكم جماعة. مَن كان يتخيّل أنّ عبد اللطيف، النائب، قد «أخذ زوجته خطيفة». شخصيّته لا تشي بذلك؟ الحواس تخدع وفق فلسفة بارمنيدس. ذات يوم كان الزين شاباً. زوجته لم تكن مُسلمة، هي مسيحية أرمنيّة، وقد هدد الشيخ بأنّ عليه أن يعقد له قرانه، الآن، وبسرعة «وإلا أنت حرّ». هدده بأنّه سيفعل الحرام. أترضاها يا مولانا! كان له ما أراد. آه يا عبد اللطيف «منّك قليل». وهكذا تزوّج، خريّج الحقوق، المحامي آنذاك «يا لطيف»… الذي ستحيا معه أليس قصارجيان لتراه وقد أصبح عميد البرلمانيين في العالم.
هو مِن الذين انتخبوا بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة عام 1982. هذه مثلبة؟ الزين ليس ثوريّاً. ورث نمطاً مِن العمل السياسي، والتوريث، بحسبه، هو «أمر طبيعي». لا يكفّ عن ترداد كلمة «مأكّد». كذلك عبارة «بكل معنى الكلمة». في مقابلة سابقة له مع «صوت الشعب» يقول: «نعيش في لبنان بنعم كثيرة وعديدة». يرفض الأخذ والرد في هذه المسألة: «صعبة المناقشة معي في هذا الموضوع». أتراه لا يعيش معنا؟ أمّ أنّ ما أتاحه له العمر مِن عيش حروب وويلات يجعله يرى ذلك؟ أم هي عيشة الإقطاع؟ يقول: «لم يكن لوالدي طبيعة إقطاعيّة. كان سلساً مع الفلاحين». كلّ ذلك لا يجعله ينسى الحديث عن «الفقراء». لازمة كلاميّة؟ ربّما. ظلّ طوال عمره يُمارس رياضة المشي نحو ساعة يوميّاً. هذا أحد أسراره.
لن نرى عبد اللطيف الزين نائباً مرّة أخرى. هو الذي لم يُهزم في دورة انتخابيّة وقد فهم أصول اللعبة. هذه المرّة لن نراه نائباً. أحد «الناشطين المدنيين» نشر أخيراً، وهو مرشّح للانتخابات، ملصقاً يقول: «هالمرّة صوتك ببنت جبيل والنبطيّة ومرجعيون وحاصبيا قادر يغيّر نوّاب صرلن مِن أوّل التسعينات ما تغيّروا». هكذا، المسألة زمنيّة عند هؤلاء. أن يأتي أيّ أحد، مِن غير القدامى، وإن كان بالمفعول نفسه وربّما أقلّ، فلا بأس. هذه هي فلسفة التغيير غالباً عند هذا الصنف مِن «التغييريين». كأنّ لديهم برامج انتخابيّة ثوريّة! قبل سقراط كان هناك بارمنيدس. قال بثبات كلّ شيء. لا شيء يتغيّر. ماذا عمّا نراه يتغيّر مِن حولنا؟ إنّه الوهم. الحواس تخدعنا. لا شيء يحصل خارج رؤوسنا. دورات متتاليّة مِن الوهم: «كلّ ما هو موجود، فهو موجود». بارميندس كان ليُحبّ عبد اللطيف الزين في سائر دوراته.