كتب محمد وهبة في “الأخبار”:
بعملية تجميلية أخذت ثلاثة أسابيع، خُفّض العجز في مشروع موازنة 2018 من 12000 مليار ليرة إلى 7260 مليار ليرة. لم يكن هناك سحر، بل تبيّن أنه جرت عملية نفخ للنفقات في النسخة الأولى لمشروع الموازنة، ثم جرى «تنفيسها» على مدى عشرة اجتماعات عقدتها اللجنة الوزارية. كان الهدف التعمية على التغيرات التي طرأت على الأرقام بين عامي 2017 و2018، إذ تبيّن أن العجز بقي عند مستواه السابق رغم خفض النفقات بقيمة 1650 مليار ليرة، كما أن خدمة الدين العام ارتفعت بقيمة 1114 مليار ليرة رغم لجوء وزارة المال إلى تنفيذ «هندسات مالية» مع مصرف لبنان على سندات بقيمة 6 مليارات دولار… فما هو مصدر الخفض بين نسختي مشروع موازنة 2018؟ وعلى حساب من؟ وما هو الفرق بين نفقات وإيرادات موازنتي 2017 و2018؟
يصف أحد أعضاء اللجنة الوزارية التي درست مشروع موازنة 2018 الخفوضات التي أجريت على نفقات موازنة 2018 بأنها «حبّة دواء تحتوي على مسكّنات ينتهي مفعولها خلال فترة قصيرة. نحن لم نضع أي حلّ ولم يكن هناك تغيير جذري في مقاربة الوضع المالي للدولة، بل أدخلنا بعض التحسينات على المقاربة السائدة». في الواقع، قد لا يعبّر هذا الكلام عن حقيقة ما حصل بين أول اجتماع للجنة الوزارية في 20 شباط، وإقرار الموازنة أمس في مجلس الوزراء (12 آذار).
بين هذين الموعدين، تغيّرت أرقام مشروع موازنة 2018 أكثر من مرّة. في النسخة التي رفعها وزير المال إلى مجلس الوزراء كان العجز يبلغ 7569 مليار ليرة، ثم تبيّن أن التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 2100 مليار ليرة موضوعة خارج الموازنة، ولم يلبث أن ارتفع العجز في أول جلسة للجنة الوزارية إلى 12000 مليار ليرة. بعدها بدأت الأرقام تتغيّر في كل جلسة. يقول أحد أعضاء اللجنة إن أرقام بعض النفقات تغيّرت أكثر من مرّة كلما تعمّق النقاش فيها، فيما أبدى بعض الوزراء استياءه من تسرّب الأرقام والتغييرات التي تؤثّر على العجز. الرواتب والأجور والتقديمات للمؤسسات العامة لم تكن ملحوظة، توظيفات في وزارة التربية لم تسجّل كلفتها، مساعدة بقيمة 100 مليار للمؤسسة العامة للإسكان كانت غير موجودة…. «كانت هناك حسابات غير دقيقة جعلت سقف العجز متحرّكاً، ثم تبيّن بعد جلسات عدّة أن العجز لم يعد 12000 مليار ليرة، بل انخفض إلى 10 آلاف مليار ليرة. كان أمراً غريباً أن تكون هذه المفارقات موجودة في مشروع الموازنة. نفخ أرقام النفقات قد يكون متعمّداً». لاحقاً، وبشكل لافت، أعلن وزير المال أنه لن يأتي بالمزيد من الأرقام في انتظار الاتفاق على كل الخفوضات واحتساب الرقم النهائي في الجلسة الأخيرة للجنة (عقدت هذه الجلسة الأحد الماضي وسط تكتّم شديد على الارقام وكيفية احتساب النفقات والإيرادات والعجز وخدمة الدين العام).
العجيب في هذه الموازنة أن رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل عقدا مؤتمراً صحافياً أمس بعد إقرار مجلس الوزراء للموازنة، للقول إن الموازنة تتضمن إصلاحات. لا بل تجرّأ الحريري على القول إنه «في هذه الموازنة ابتعدنا عن أزمة اليونان». وفي المقابل، يقول وزراء من اللجنة الوزارية التي درست الموازنة أنها «عبارة عن عمليات حسابية إذا لم تترافق مع معالجات ومنهجية عمل حكومية ذات أهداف اقتصادية واجتماعية… فعلى الأرجح سنصل إلى حافة الهاوية مجدداً وقد نقع».
إذاً، أيّ البنود طالها الخفض؟ وأي إصلاحات؟
ــ خدمة الدين العام انخفضت بين النسخة الأولى من مشروع 2018 والنسخة الثانية بقيمة 249 مليار ليرة، من 8513 مليار ليرة إلى 8246 مليار ليرة. الخفض جاء بعد إقرار اللجنة بأن تنفذ وزارة المال «هندسات مالية» مع مصرف لبنان على سندات خزينة بالعملة الأجنبية بقيمة 6 مليارات دولار. حصّة 2018 من الخفوضات الناتجة من هذه الهندسات تبدو متواضعة قياساً إلى شرائح السندات المتاحة للهندسات وآجال استحقاقاتها وفوائدها، إذ تبيّن أن خدمة الدين ارتفعت بالمقارنة مع 2017 بقيمة 1114 مليار ليرة، علماً بأن وزارة المال ومصرف لبنان نفذا هندسات مالية مماثلة في 2017 على سندات بقيمة 1.7 مليار دولار! وهذه ليست المشكلة الوحيدة المتعلقة بهذه الهندسات، بل هي تعني أن لبنان يزيد من ديونه بالعملات الأجنبية إلى أكثر من نصف الدين العام وهو أمر خطير، وان متطلبات الإيفاء بهذه الديون بالعملات الأجنبية تزداد مع مرور الزمن واستحقاق السندات.
ــ كانت قيمة النفقات في 2017 تبلغ 23906 مليارات ليرة، ثم ارتفعت في النسخة الأولى من مشروع موازنة 2018 إلى 25503 مليارات ليرة، وانخفضت في مشروع الموازنة المحال إلى مجلس النواب لتبلغ 23854 مليار ليرة. عملياً، النفقات زادت بين 2017 و2108 بقيمة 52 مليار ليرة، ولكنها تكون انخفضت بين نسختي 2018 بقيمة 1645 مليار ليرة. هذا الخفض هو الترجمة العملية التي قامت بها لجنة الموازنة الوزارية على مدى 10 جلسات لتعميم رئيس الحكومة خفض الاعتمادات بقيمة 20%. في الواقع، إن «نكتة» الـ20% تكشف بؤس هذه الموازنة وبؤس الحكومة، إذ إن الخفض المسجّل بعد 10 جلسات يشكّل 6.46% من النفقات الواردة في النسخة الأولى من مشروع موازنة 2018. والأسوأ أن هذه الخفوضات ليست إلا خفضاً لإنفاق تشغيلي أو خفضاً لإنفاق استثماري. في كلتا الحالتين، إن الأثر الناتج من هذا الخفض لا يندرج ضمن رؤية اقتصادية، بل ضمن رؤية محاسبية تجميلية لم ترَ في الموازنة أبعد من مؤتمر باريس 4. هذه الرؤية لجأت إلى تخبئة بعض أوجه الإنفاق، كما فعلت بالنسبة إلى دعم كلفة الكهرباء، أو عمدت إلى تجزئة الإنفاق كما فعلت بقوانين البرامج وأخضعت المبالغ المرصودة لها لعملية تجزئة تقلّص القيمة المرصودة في السنة الواحدة، وتمدّد أجل البرامج على سنوات أكثر.
ــ تُرك احتياط الموازنة كبيراً. في النسخة الأولى كانت قيمة الاحتياط المرصود تبلغ 1086 مليار ليرة، وجرى خفضه إلى 945 مليار ليرة، أي بما قيمته 141 مليار ليرة. في عام 2017 كان الاحتياط المرصود في مشروع الموازنة 1388 مليار ليرة، إلا انه مع امتداد مناقشة مشروع الموازنة حتى نهاية 2017، تبيّن أنه يمكن خفض أكثر من 500 مليار ليرة من قيمة هذا الاحتياط. تقول مصادر وزارية إن الحفاظ على هذا المستوى من احتياط الموازنة له علاقة بالإنفاق الانتخابي الذي تقوم به قوى السلطة لشراء أصوات الناخبين عبر مشاريع خدماتية طارئة. فالاحتياط بقيمة 945 مليار ليرة مقسّم على النحو الآتي: 580 مليار ليرة لتغذية مختلف بنود الموازنة، 235 مليار ليرة للعطاءات (ليس هناك تفسير واضح لهذه العطاءات)، 54 مليار ليرة للرواتب والأجور غير الموزّعة (أي تلك الرواتب والأجور التي لم تكن ملحوظة سابقاً)، 75 مليار ليرة للأحكام القضائية والمصالحات، مليار ليرة للعمولات المصرفية.
ــ فجأة ومن دون سابق إنذار، تبيّن أن أرقام الإيرادات المسجّلة في النسخة الأولى من مشروع الموازنة ليس دقيقاً أيضاً. ففي عام 2017 كانت الإيرادات تبلغ 16416 مليار ليرة، وهذا الرقم يفترض ان يشمل إيرادات ناتجة من الإجراءات الضريبية التي أقرّها مجلس النواب بهدف تمويل سلسلة الرتب والرواتب. هذه الإيرادات ارتفعت في النسخة الأولى من مشروع موازنة 2018 إلى 17934 مليار ليرة، أي بزيادة 1473 مليار ليرة، لكن اللجنة الوزارية اقترحت مجموعة إجراءات وإعفاءات ضريبية تقدّر أنها سترفع الإيرادات إلى 18686 مليار ليرة، أي بزيادة 2270 مليار ليرة. يشكّك الكثير من الخبراء في احتمال بلوغ هذا الرقم، ولا سيما أن هناك تباينات في الرأي عن الأثر الاقتصادي للإعفاءات الضريبية المقرة لعام 2018. بعض الوزراء حاجج بأن هذه الإعفاءات ستزيد الإيرادات، وبعضهم الآخر أصرّ على وجود أثر سلبي لهذه الإعفاءات. من أبرز الإعفاءات والحوافز الضريبية التي أقرّت هي: خفض غرامات التحقق والتحصيل بنسبة 100% وبنسبة 90% تبعاً لنوع المخالفة، خفض الغرامات على أوامر التحصيل الواردة من الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات بنسبة 90%، خفض الغرامات على متأخرات رسوم الميكانيك بنسبة 90%، خفض الغرامات على متأخرات الرسوم البلدية بنسبة 90%، خفض الغرامات المترتبة على متأخرات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بنسبة 90%، إعفاء المكلفين من غرامات التأخر في تقديم التصاريح، تقسيط الضرائب المقتطعة عند المنبع والضريبة على القيمة المضافة، إجراء تسوية ضريبية على المكلفين بضريبة الدخل في حال اختيار «التسوية»، رفع التنزيل الخاص ببعض دور السكن، تعديل ضريبة الأملاك المبنية، خفض معدل الرسم على رسوم التسجيل العقاري من 5.1% إلى 3%، الإعفاء من رسوم التأمين العقاري وفك التأمين، تسوية على أكلاف ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة المقدمة أمام لجان الاعتراض، إعفاء الشركات والمؤسسات التي توقفت عن العمل ولم تشطب من السجل التجاري من الغرامات ومن رسم الطابع المالي، تسوية العقارات المخالفة…
الخفوضات سيكون لها أثر على النمو الاقتصادي، أما الإعفاءات الضريبية فلا شيء يضمن أنها ستزيد الإيرادات، فيما الإصلاحات التي يتحدّث عنها رئيس الحكومة غير موجودة! هذه هي موازنة 2018 المستعجلة قبل باريس 4.
المقبول والمرفوض ومجهول المصير
تقول مصادر وزارية إن مجلس الوزراء لم يقرّ مجموعة من الأمور التي كان قد اتفق عليها في اللجنة الوزارية؛ فعلى سبيل المثال، رفض الوزراء خفض سقف تقديمات المنح المدرسية لموظفي القطاع العام وتوحيدها بقيمة مليوني ليرة، بل بقيت التقديمات على ما كانت عليه سابقاً. كذلك رفض المجلس زيادة درجات للقضاة، لأن هذا الأمر سيزيد التوسّع في الإنفاق وقد يفتح الباب على مصراعيه في هذا المجال. ولم يتضح مصير بعض الأكلاف التشغيلية الأخرى، مثل تعويضات اللجان والمكافآت والساعات الإضافية، وحجم المساعدة التي ستقدمها الدولة للمؤسسة العامة للإسكان بعد الاتفاق على أن الموازنة لا تتحمّل دفع مبلغ 100 مليار ليرة للمؤسسة… وأهمّ جزء لم تتضح حقيقته بعد، هو ما يتعلق بالإنفاق الإضافي على الكهرباء. فهناك تقديرات بأن العجز الناتج من شراء المحروقات سيرتفع من 2100 مليار ليرة إلى 2400 مليار ليرة، وأن هناك مبلغ 1000 مليار ليرة مخصصاً للتعاقد مع البواخر لم يدرج في الموازنة، رغم وجود اتفاق سياسي على هذه الصفقة.