يحدث الآن في بيروت، وعلى مدى الـ52 يوماً الفاصلة عن الانتخابات النيابية في السادس من أيار المقبل، ما هو أدهى من ضوضاء الأسماء واللوائح والبرامج التي تُمْليها المنازلاتُ في الطريقِ إلى القبْض على مقاعد البرلمان الـ128، والهنْدساتُ التحالفية لـ”الآلة الحاسبة”، والشهية المفتوحة لنحو ألف مرشح تتقدّمهم 111 سيدة كأنهنّ “كبش فداء”، وتَدافُع برامج أشبه بحملاتٍ ترويجية لـ”مستحضرات” تَداوُل السلطة وكراسيها.
هذا الضجيج، الذي يوحي بخفوتِ صوت السياسة في ملاقاة انتخاباتٍ تأخرت خمسة أعوام وبخضوعِ التحالفات لمنطق الربح والخسارة في حضرة قانون انتخابٍ يَستحضر تجربة “قابيل وهابيل” والانسياق وراء تركيبات حسابية على القلم والورقة، لا يقلّل من مفصلية استحقاق السادس من أيار و”استراتيجيته” كمحطةٍ انعطافية في المعركة على السلطة وتوازناتها بين الجماعات اللبنانية وعلى الموقع الاقليمي للبنان في ظل حرب النفوذ الدائرة في عموم المنطقة.
فرغم غياب “القضايا الكبرى” عن الحملات لانتخاباتٍ تبدو كأنها “بلدية”، فإن لبنان غير المعزول عما يحوط به من صراعٍ كبير ربما بَكَّرَ في صنع مقدماته يوم اغتيل رفيق الحريري في فبراير 2005 واضطُر الجيش السوري للخروج بقرارٍ دولي وانتفاضةٍ أهلية، وحين ارتُكبت أوسع عملية متسلسلة للاغتيال السياسي ضدّ قادة “14 آذار”، قبل أن تنفجر الحرب بين “حزب الله” واسرائيل في الـ2006، وبعدها قيام “حزب الله” في 7 مايو 2008 بعملية عسكرية ضد بيروت وبعض الجبل لكسْر التوازن السياسي في البلاد.
ولن يكون واقعياً مقاربة الانتخابات النيابية اللبنانية وكأنها تجري على المقلب الآخر من الكوكب في اللحظة التي يزداد الجوار السوري اشتعالاً مع التحذيرات الدولية من “نهاية العالم” في غوطة دمشق، أحد منازه الدنيا السبعة، ومع سيناريوات الرمال المتحرّكة السورية بعد سبعة أعوام من حربٍ كأنها بدأتْ للتو، والكلام تارةً عن أفغانستان روسية تُنْصَب لفلاديمير بوتين أو فيتنام أميركية تَنتظر مغامرات دونالد ترامب أو حرب الحروب الإسرائيلية – الإيرانية التي لن ينجو منها لبنان بالتأكيد.
كأن بيروت وكوْلساتها الانتخابية تدير ظهرها لـ”صندوقة باندورا” السورية وكوابيسها الهائلة. فمن فوق رأس لبنان وعلى تخومه الأربعة ما يشبه ميني حرب عالمية أوّلها كلامٌ بمكبرات الصوت ينطوي على التلويح بالصواريخ بين واشنطن وموسكو… الولايات المتحدة، ومعها فرنسا، توعّدتْ نظام بشار الأسد بردّ موجع إذا استمرّت المجزرة المفتوحة، فردّت روسيا بأنها لن تقف مكتوفة ولن تسكت.
وها هي أصداء المناورات العسكرية الأضخم في اسرائيل كـ”كوبرا العرعر” التي شاركتْ فيها القوات الأميركية، تتردد على المقلب اللبناني، الذي لم يَطمئن تماماً لعملية “التنويم الديبلوماسي” للتوتّر العالي بين بيروت وتل أبيب وتعليقه، بمهارةِ ديفيد ساترفيلد حتى إشعار آخر، فوق صفيح المياه الساخنة في الرقعة البحرية – النفطية وبلوكاتها المتنازَع عليها، وفوق الجدار الإسمنتي والمراوغة الاسرائيلية حول النقاط الـ13 المتروكة في عهدة الـ1701 وقبّعاته الزرق.
أشياء كثيرة غير مُطَمْئنة تحضر في البرامج الانتخابية وتختفي في حفلات تقديم المرشحين الأشبه بـ”عروض الأزياء”… ثمة خطر يتسلّل من فائقِ التلاعب بالمصير اللبناني منذ أعوام، اسمه الافتراضي “الانهيار المالي” الذي لم يعد مجرد فزاعة يُستسهل استخدامها في معارك تصفية الحسابات السياسية. فمن تقرير البعثة الرابعة في صندوق النقد الدولي إلى تقرير وكالة “بلومبرغ”، تحذيرات علنية وفجة من تراجع النمو ونمو الفساد، ومن أن يكون وقت السقوط في “النموذج اليوناني” قد اقترب مع تَعاظُم سياسات لحْس المبرد.
ورغم التفاؤل الذي أبداه رئيس الحكومة سعد الحريري بعد إنجاز موازنة مخفوضة وبـ”شقّ النفس” شقّت طريقها إلى البرلمان لإقرارها تماشياً مع دفتر شروط مؤتمر “سيدر 1” في باريس لتمويل مشاريع استثمارية في لبنان من شأنها المساهمة في إبعاد شبْح “اليوْننة” (نسبة إلى اليونان)، فإن ثمة مخاوف من إضاعة هذه الفرصة واستنزاف نتائجها، إذ تشي التوقّعات في بيروت بأن البلاد ستكون على موعد مع صراع خشن بعد الانتخابات على تأليف الحكومة، تطال شظاياه انتخابات رئاسة البرلمان، الأمر الذي سيشكل حرب استنزاف سياسية – اقتصادية.
ولم يعد سراً أيضاً ان نتائج مؤتمرات الدعم الدولية الثلاثة للبنان (للجيش في روما وللاستثمار في باريس وللنازحين في بروكسل) ستكون معلَّقة في ترجماتها، على نتائج الانتخابات النيابية وما قد يحصده “حزب الله” ومدى ملاءمة التوازنات الجديدة مع وفاء لبنان بالتزاماته تجاه المجتمع الدولي. فـ”صناديق الاقتراع” في السادس من مايو ستُفتح على قراءة دولية لما ستكون عليه الخيارات بإزاء الواقع الجديد.
“حزب الله” الذي كان أدار مركب التفاوض على قانون الانتخاب الجديد من الخلف، حقق ما أراده عبر الصيغة التي أُقرّت، إذ استطاع بـ”محاكاةٍ مسبقة” إرساء معادلة “ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم”، وهو ما تُرجم سريعاً باتفاق الثنائي الشيعي – اي “حزب الله” وحركة “أمل” – على التحالف في لوائح واحدة بهدف حصد مقاعد الحصة الشيعية في البرلمان كاملة (27 نائباً)، ومن ثم عقد تحالفات بالمفرّق تتيح الفوز بمرشحين سنّة ودروز ومسيحيين.
ورغم أنه يحلو للبعض القول إن صناديق الاقتراع ستكون بمثابة “علب أسرار” يصعب التكهن بمفاجآتها، فإن “حزب الله” يريد في أدائه الانتخابي اصطياد ثلاثة أهداف بحجر واحد هي:
– الإمساك بـ”حجر الرحى” الذي يستند إليه “حزب الله” في تَعاظُم جسمه وتَوسُّع أدواره، أي بكامل الحصة التمثيلية للشيعة ورفْع مستوى التصويت لإظهار حجم الاحتضان الشعبي له في مواجهة محاولاتٍ متوالية لفرْض الحصار عليه و”خنْقه” عبر عقوباتٍ مالية صارمة.
– السعي للقبض على الثلث المعطل في البرلمان (43 نائباً) عبر العمل على الفوز بكتلةٍ تضمّه الى حلفائه الخلص من “8 آذار”، وبمعزل عن الحاجة الى “التيار الوطني الحر” او النائب وليد جنبلاط، مما يتيح له الإمساك بـ”مفتاح” مجلس النواب وخصوصاً في استحقاقات مهمّة كالانتخابات الرئاسية.
– محاولة للإمساك بالأكثرية (65 نائباً) عندما تقتضي الحاجة عبر تحالفٍ، يصعب التفريط به، مع تيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وخصوصاً في مسائل تهمّ الطرفين وتمليها لعبة تبادل المصالح بينهما.
والأهم في المخاض الانتخابي أن ثمة معارك علنية وأخرى مكتومة وعمليات خلْط أوراق تجري على الطريق إلى استحقاق السادس من مايو ستجعل من اليوم التالي، يوماً آخر في لبنان.