كتبت صحيفة “العرب” اللندنية: تعوّل بيروت على ما تملكه من خبرة في سوق المال والمصارف، كما على ما تملكه من علاقات قديمة مع سوق المال والاستثمار في سوريا، وعلى الجغرافيا التي تجعل من لبنان وقطاعاته الاقتصادية، لا سيما المصرفية، الأقرب لتلبية حاجات السوق السوري المقبلة.
وكان النظام السوري أصدر تشريعات قبل اندلاع الحرب في سوريا سمح بموجبها أن يفتح القطاع المصرفي السوري أمام شركات خاصة عربية وفدت من لبنان والأردن والسعودية والكويت وقطر والبحرين. وتقول المعلومات إن المصارف الـ14 الخاصة التي دخلت السوق قبل عام 2011، مازالت تقنيا تعمل في سوريا رغم الحرب التي اجتاحت البلاد.
وحين نتحدث عن الوجود التقني، فذلك يعني أن بعض هذا التواجد فاعل عمليا وبعضه الآخر فاعل قانونيا، بحيث بالإمكان بسهولة لاحقا تحويل ما هو قانوني نظريا إلى وجود عملي يلتحق بأي إعادة تنشيط للسوق السوري لجهة انتقاله من منطق الحرب إلى متطلبات السلم.
لكن تلك المصارف المفترض أنها أجنبية لم تسلم من سهام العقوبات الدولية التي فرضت على سوريا. ففي اشار من العام الماضي فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بنك الشام الإسلامي والذي تعود ملكية 32 بالمئة من أسهمه إلى بنك التجارة الكويتي، بسبب اتهامه بدعم النظام.
وتقول التقارير إن هذه العقوبات لم تنل كثيرا من أنشطة المصرف، كما أن المصارف الأخرى سعت إلى صيانة وجودها وعملت على تمويه ما لحقها من خسائر بسبب الحرب الداخلية من خلال التلاعب بتقارير أنشطتها المالية عبر مناورات محاسبية. وكانت لهبوط سعر الليرة السورية تداعيات مباشرة على حقيقة الأرباح الوهمية التي كانت تحقق والتي سرعان ما تتآكل بفعل التضخم المخيف. وقد أدى ذلك إلى محاولة المصارف الدائنة اعتماد سبل تحفظ لها سيولتها الدائمة.
ومقابل تمسك المصارف الأجنبية بالبقاء داخل السوق السوري وتكبدها خسائر فادحة جراء الأزمة المندلعة منذ عام 2011، تعول هذه المصارف على الازدهار الذي يفترض أن توفره مشاريع الإعمار المقبلة. وتستند مشاريع الإعمار على ما سيخرج من تنافس القوى العالمية من اتفاق لاقتسام “الكعكة” الاقتصادية السورية.
في هذا الإطار، لا تخفي روسيا وإيران تعويلهما على الغرف من الوفرة الاستثمارية في سوريا لاسترجاع ما أنفق ماليا في هذا البلد ولكسب وفورة أخرى تبرر اقتصاديا تدخلهما في الصراع السوري.
ويعوّل الأوروبيون أيضا على مستقبل الاستثمار في ورش الإعمار العملاقة، لكنهم يربطون الأمر بوجود تسوية سياسية شاملة. وبدورها، تمني تركيا النفس بحصة وازنة في مستقبل سوريا الاقتصادي من خلال تواجدها العسكري في الشمال، فيما الولايات المتحدة تستعد للغرف المقبل من مشاريع الاقتصاد السوري من خلال تواجدها العسكري الحالي شرق الفرات.
واتخذ النظام السوري إجراءات واقتصادية تحت عنوان يزعم التحضير ماليا لإعمار سوريا. فقد أدخلت دمشق قوانين تفرض ضرائب مباشرة وغير مباشرة على السلع والخدمات ورفعت من تعرفتها الجمركية على بعض الواردات، معلنة أن 10 بالمئة من مداخيل السوريين ستخصص للإعمار.
وكان المستثمرون الخليجيون أوقفوا مشاريع التطوير العقاري منذ قرار جامعة الدول العربية تعليق عضوية سوريا داخل الجامعة. ومع ذلك فإن عددا من المستثمرين في الخليج بدأوا يستشعرون ضرورة التوجه إلى السوق السوري لا سيما وسط الحديث عن تسوية وسلم قادمين.
وتتحدث التقارير عن خطط من هذا النوع لدى مجموعة الخرافي الكويتية التي تمتلك مجموعة أسهم الشركة السورية الكويتية القابضة. وتقول المعلومات إن المجموعة الكويتية اشترت أراضي في يعفور إحدى القرى القريبة من العاصمة (محافظة ريف دمشق) بالشراكة مع مستثمرين سوريين بمبلغ 12.2 مليون دولار لاستكمال مشروع سابق للتطوير العقاري تعطل بسبب الحرب.
ويعول لبنان كثيرا على مشاريع الإعمار في سوريا للاستفادة من الفرص والامتيازات التجارية، خصوصا من خلال ما يمكن أن توفره مدينة طرابلس من منفذ أساسي للجهود الدولية التي ستدفع باتجاه الإعمار في سوريا. وينعم لبنان بأسبقية عن بقية المستثمرين الأجانب بسبب العلاقات القديمة بين رجال الأعمال السوريين واللبنانيين وبسبب أن المصارف اللبنانية هي أول المصارف الأجنبية التي دخلت السوق السوري المصرفي.
بيد أن هذه المصارف وهي: بنك الشرق وبنك عودة وبلوم بنك، وبنك بيبلوس، وفرنسابك، سجلت في السنوات الأخيرة خسائر جمة إلى درجة اضطرارها إلى إقفال بعض فروعها داخل سوريا. وللمفارقة، فإن عددا من المستثمرين الأجانب، بمن فيهم مستثمرين لبنانيين، رفعوا بالمقابل من مستوى استثماراتهم في سوريا منذ عام 2011.
ولم تتوقع المصارف اللبنانية في سوريا أن تكون الحرب في سوريا بهذه الضراوة على النحو الذي يدمر طموحاتها السابقة، لكنها تعول بالمقابل على أن بقاءها وصمودها في السوق سيكافآن من خلال مرحلة الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلم في سوريا.
وعلى الرغم من أن المصارف اللبنانية تمتلك الخبرة داخل السوق السوري، إلا أن تلك المصارف تحمل معها مخاطر من نوع آخر تهدد استقرارها ونجاعة عملياتها داخل سوريا متعلقة بحزب الله. فقد دفع عامل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على حزب الله وشبكاته المالية المصارف اللبنانية إلى اتخاذ تدابير وإجراءات تدفع عنها تهمة التعامل المالي مع الحزب.
واتخذت وزارة الخزانة الأميركية إجراءات عقابية ضد أي مصارف أو شركات مالية يشتبه في أنها تتعامل مع شبكات تمويل حزب الله. وصدر القانون عام 2015، وأثار قلقا كبيرا لدى القطاع المصرفي اللبناني، ما دفع حاكم مصرف لبنان ووفودا برلمانية ووزارية لبنانية إلى زيارة واشنطن للقاء المسؤولين الأميركيين ومسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين بغية حماية السمعة المالية للنظام المصرفي في لبنان.
وتخشى المصارف اللبنانية من عقوبات أميركية تطالها إذا ما تمادت في أنشطتها داخل سوريا التي قد يشتبه في أنها تجري بالتواطؤ مع نظام دمشق وحزب الله. وظهرت المخاوف اللبنانية هذه في أكتوبر من عام 2016 حين أعلن بنك عودة عن استقالة ممثليه داخل مجلس إدارة فرعه السوري.
وتواكب قرار المصرف مع سعيه لتمويه حضوره داخل السوق السوري إثر محاولة فرعه في سوريا تغيير اسمه والعمل تحت مسمى “بنك التجارة الأهلي”. ورفضت سلطات دمشق ذلك واعتبرته محاولة لنأي المصرف اللبناني نفسه عن فرعه السوري. وأمر هذا التباعد من قبل بلوم بنك وبنك بيبلوس فيما تقول التقارير إن بقية المصارف ستسعى إلى ذلك لاحقا. وسيكون على المصارف اللبنانية العاملة في سوريا اللجوء إلى استراتيجيات كثيرة لكي تحافظ على نقطة التوازن المناسبة التي تجمع النظام المصرفي اللبناني بالنظام المصرفي الدولي، في الوقت الذي تجهد مصارف لبنان إلى البقاء داخل السوق السوري الذي لا يمكن إلا أن يفرض شروطه التي تعني انخراطا مع حزب الله ونظام دمشق اللذين يتعرضان للعقوبات المالية.
غير أن مصادر مصرفية لبنانية تقول إن عمليات الإعمار المرتقبة لن تكون إلا حصيلة تفاهمات دولية تعيد الشفافية للسوق وقد تزيل ترسانة من العقوبات التي تطال الأنشطة السورية، وأنه كما استطاعت مصارف لبنان الالتزام بالمعايير المتعلقة بالتعامل مع حزب الله، فإن هذه المصارف قادرة على قراءة المشهدين السياسي والمالي الدوليين وقادرة على ابتكار سبل العمل القانوني الذي لا يحرم مصارف لبنان من قطف ثمار ما استثمرته خلال العقود الأخيرة في سوريا.