كتب محمد عباس ناجي في صحيفة “العرب اللندنية”:
كلما خطى الأوروبيون خطوة جديدة تجاه الفصل بين الاتفاق النووي وبقية التجاوزات الإيرانية، ازدادت طهران قلقا وتضاعفت حدة تصريحاتها بما ينقلب ضدها ويساعد في تقليص الخيارات المتاحة أمامها وأمام الأوروبيين بشأن الحفاظ على الاتفاق النووي.
وتعكس مواقف القوى الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نجحت في تقديم الأدلة التي تعزّز حملتها للضغط على إيران ومواجهة أجندتها على الساحة الشرق أوسطية والدولية، وهي جهود عززها إصرار طهران على مواصلة تدخلاتها في المنطقة وتطوير برنامجها الصاروخي ورفض إجراء تعديلات على الاتفاق النووي.
وانعكس ذلك في الاقتراح الذي قدمته كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بفرض عقوبات أوروبية على إيران بسبب برنامجها الصاروخي ودورها في الحرب السورية، تضاف إلى عقوبات سبق فرضها عليها في ملف انتهاكات حقوق الإنسان مقابل إقناع واشنطن بالإبقاء على الاتفاق النووي.
وبمجرد الكشف عن تفاصيل هذا الاقتراح، خرج نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، ملوّحا بورقة فقدت الكثير من نقاطها لدى الأوروبيين، وهي ورقة إلغاء الاتفاق من الجانب الإيراني ردا على أي موقف “معاد” من الجانب الأوروبي.
وقال عباس عراقجي، وفقا لما نقلته وسائل الإعلام، “إذا اتخذت دول أوروبية خطوات لفرض عقوبات غير نووية على إيران لإرضاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب فسترتكب بذلك غلطة فادحة سترى نتيجتها المباشرة على الاتفاق النووي”.
وتابع قائلا “من الأفضل أن تواصل الدول الأوروبية نهجها الحالي لإقناع أميركا بالوفاء بتعهداتها بموجب الاتفاق النووي”، وهو أمر تؤكد تصريحات المسؤولين في الإدارة الأميركية أنه منوط بإيران وليس بالأميركيين، فإذا أثبتت إيران أنها ملتزمة بكل تفاصيل الاتفاق ونقاطه، من وقف البرنامج النووي إلى وقف أنشطتها المثيرة للصراعات في الشرق الأوسط، فلا شيء يمنع الالتزام بالاتفاق، وهو ما لم تلتزم به طهران.
وتزامن الكشف عن الاقتراح الأوروبي مع عقد الاجتماع الحادي عشر للجنة المشتركة للاتفاق النووي في فيينا، بمشاركة إيران والولايات المتحدة لمناقشة القضايا الخلافية الخاصة بالاتفاق، والذي كان فرصة لإجراء مباحثات مباشرة بين الوفدين الإيراني والأميركي.
وترى دول أوروبية أن التماهي مع الولايات المتحدة في فرض عقوبات على إيران، يدفع واشنطن إلى الاستمرار في الاتفاق النووي، وعدم الانسحاب منه بعد 12 مايو المقبل، وهو التاريخ الذي يتعيّن فيه على ترامب اتخاذ قراره فيما يتصل بتعليق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران أم تفعيلها من جديد.
وساعدت إيران من خلال تمسكها بسياستها المتشددة في تقليص الخيارات المتاحة أمام الأوروبيين. وتسعى أوروبا دوما إلى توجيه رسالة لطهران بأنها لا تستطيع التعويل بصفة دائمة على وجود خلافات في المواقف مع الولايات المتحدة لتوسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاح أمامها.
ولعبت المواقف التي اتخذتها طهران خلال الفترة الماضية دورا في تقليص مساحة الخلافات، ومنها إصرارها على مواصلة دعمها لحلفائها في المنطقة، وتطوير صواريخها الباليستية، التي قالت إنها دخلت قائمة الدول الخمس الأولى على مستوى العالم التي تمتلك التكنولوجيا الخاصة بها.
كما أن ردود الفعل المتوقعة تجاه الخطوة المحتملة قد تضيف نقاطا جديدة في الحساب الأميركي، حيث ستصرّ إيران على تبني خطوات أكثر تشددا للتعامل مع تلك الضغوط.
وتساهم المواقف الإيرانية في توفير المزيد من الخيارات أمام إدارة ترامب، التي قد لا تكتفي بالعقوبات الأميركية والأوروبية المحتملة، وإنما ربما تتجه إلى مجلس الأمن، لإصدار عقوبات دولية على إيران بسبب برنامجها الصاروخي وتدخلها في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة ودعمها للإرهاب.
ولن يكون مشروع القرار الذي قدمته بريطانيا، بالتشاور مع الولايات المتحدة وفرنسا، وسعى لإدانة إيران بسبب قيامها بنقل الصواريخ إلى جماعة الحوثي، الأخير في هذا المضمار. ورغم أن موسكو استخدمت الفيتو لمنع صدور إدانة في الجلسة التي عقدت في 26 من الشهر نفسه، على نحو وجه رسالة خاطئة إلى طهران، فالأمر لا يخلو من مكاسب عديدة لواشنطن.
وأدى ذلك إلى اتساع مساحة التوافق بين الولايات المتحدة ودول أوروبية فيما يتعلق بآليات التعامل مع طهران، وأحرج روسيا على الساحة الدولية، ووضعها في صورة المدافع عن داعمي الإرهاب ومنتهكي حقوق الإنسان، بعد أن وسعت موسكو من نطاق استخدامها للفيتو في الأزمة السورية وامتد إلى الملف الإيراني.
وإذا استخدمت موسكو الفيتو مجددا، فإن ذلك سيخدم سياسة إدارة ترامب أيضا، التي قد تتجه إلى الانسحاب من الاتفاق بعد انتهاء المهلة الحالية في 12 مايو المقبل، مستندة في هذا الصدد إلى عدم نجاحه في تحقيق أهدافه الأساسية.
ومن خلال اختيار مايك بومبيو لمنصب وزير الخارجية خلفا للوزير السابق ريكس تيلرسون، وجهت إشارة صريحة على أنها تتجه لتحويل التهديد إلى خطوة إجرائية على الأرض، في ظل المواقف التي يتبناها بومبيو من الاتفاق.
وكان امتناع الصين عن التصويت على مشروع القرار البريطاني خطوة مفاجئة لطهران. ويشير الموقف الصيني إلى أن بكين تسعى إلى اتباع مواقف متوازنة في ظل مصالحها مع دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنه يعني أيضا أن الدول الغربية نجحت في تحييد موقف بكين إزاء الخلاف مع طهران ومن ورائها موسكو.
وحظي ذلك باهتمام ملحوظ من جانب طهران، التي كانت تعتبر أن علاقاتها القوية وصفقاتها الكبيرة مع بكين سوف تمنحها فيتو آخر في مجلس الأمن إلى جانب الفيتو الروسي، وهو ما ثبت أنه لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
لا ينفصل ذلك عن حرص بكين على عدم تصعيد حدة التوتر مع واشنطن على الأقل في المرحلة الحالية، مع إصرارها على إيقاف طلب تقدمت به الأخيرة في 3 مارس الجاري، إلى لجنة العقوبات الخاصة بكوريا الشمالية في مجلس الأمن، لإدراج 33 سفينة و27 شركة شحن في القائمة السوداء الخاصة بانتهاك العقوبات على بيونغ يانغ.
وبدا أن أحد أهداف التصعيد الأميركي المتزامن ضد إيران وكوريا الشمالية في مجلس الأمن كان ممارسة ضغوط على بكين لاتخاذ موقف غير داعم للأولى داخل المجلس على غرار ما فعلت روسيا.
ويمثل ذلك إشارة واضحة إلى طهران بأن تعويلها على القوى الآسيوية لن يمكنها من مواجهة الضغوط الدولية المفروضة عليها أو تعويض إخفاقها في الحصول على أكبر قدر من العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي. وتكشف هذه التطورات أن طهران ستواجه خيارات محدودة على الساحة الدولية، بشكل يفرض المزيد من الضغوط عليها خلال الفترة المقبلة.