Site icon IMLebanon

إئتوا بكاظم الخليل إلى انتخابات 2018

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

تواجه انتخابات 2018 في دوائر شتى اكثر من ازمة ثقة بين الحلفاء، وحلفاء الحلفاء. هي اقرب الى انتخابات تناتش مقاعد، منها الى استحقاق دستوري يتوخى تداولاً ديموقراطياً للسلطة ونشوء طبقة سياسية جديدة وفق برامج انتخابية لم تكن مرة، في تاريخ الانتخابات النيابية المتعاقبة، سوى قشرتها.

زمة ثقة بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية، وبين هذه والتيار الوطني الحرّ، وبينه وتيار المستقبل، وبين القوات اللبنانية وحزب الكتائب، وبينهما وسواهما وتيارات سياسية وقوى وزعماء الاقضية ــ في الشارع السنّي كما في الشارع المسيحي ــ تبدأ من عكار شمالاً، مارة بدوائر الغالبية السنية، تمدّداً الى دوائر الغالبية المسيحية، شرقاً الى البقاع الشمالي، وصولاً الى زحلة والبقاع الغربي، هبوطاً غرباً الى بيروت، ثم الى صيدا: كيف يتنزع هذا الفريق من ذاك مقعداً يريده، ولا يتنازل عن آخر زائد.

ليس ما يجري في انتخابات 2018 سابقة. قبلها استحقاقات شتى خبرت التنافس الى حد التناحر. بيد انه الآن داء بلا دواء. خليط الخلافات والتزاحم ينتشر بين المذاهب، وبين الطوائف، كما لو ان احداً لم يعد ــ بفضل الصوت التفضيلي ــ حليف احد. ليس ثمة مرجعية تعثر على حل وفق معادلة حصة تميّز الحق في مقعد عن الطمع فيه. في انتخابات 2005 و2009 كان يكفي سعد الحريري ووليد جنبلاط ان يدلا حلفاءهما المسيحيين في قوى 14 آذار على المقاعد القليلة ــ بأصوات ناخبيهما ــ كي يسلّم هؤلاء بالحصة على مضض. اليوم بات كل منهم يحدّد بنفسه، ولنفسه، حصته وإن اقتضى منافسة حليفه. رغم الحدة هذه، يتصرّف الحلفاء السابقون كما لو انهم لا يزالون كذلك.

ما يحتاجون اليه، هم الباحثون عن لغز صنع ائتلافاتهم لانتخابات 2018، هو مَن يجعلهم جميعاً رابحين وليس بينهم خاسر، على غرار ظنّهم ان قانون الانتخاب الجديد، حينما اقروه معاً في حزيران 2017، سيقودهم الى هذا الحساب.

كاظم الخليل هو الرجل الذي يتطلّبه الافرقاء المتناحرون على المقاعد. قبلهم كانت ظاهرة الحلف الثلاثي اسطع دليل على ما يشبه هذه الايام، وإن اقتصرت حينذاك على نزاعات الزعماء الموارنة وتنافسهم.

قبل نصف قرن تماماً. في موعد قريب هو 8 نيسان من موعد انتخابات 2018 في 6 ايار، كان ثلاثة زعماء موارنة يتسابقون في آن على استحقاقين متلازمين: انتخابات نيابية عام 1968 وانتخابات رئاسية عام 1970. الثلاثة زعماء في طوائفهم ورؤساء الاحزاب المسيحية الاقوى، ناهيك بأنهم مرشّحون جدّيون لرئاسة الجمهورية. من دون مقارنة ظالمة، قريبة او بعيدة بين البارحة واليوم، بعض ما يجري الآن في مواصفاته ينطبق تماماً على 50 عاماً خلت.

كمنت تجربة كاظم الخليل ليس في تمكّنه من حمل كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون اده على الفوز في ثلاث دوائر مسيحية احداها مسقط فؤاد شهاب فحسب، بل ــ في الاصل ــ مقدرته على اتمام ائتلاف مستحيل بين ثلاثة اضداد موارنة، قال لهم حينذاك انهم يتنافسون في آن على زعامة الطائفة والانتخابات النيابية ورئاسة الجمهورية.

كي ينجح الرجل في صنع امر صعب مواز لاهمية نشوء حلف ثلاثي في ما بينهم أخفق في ضم زعماء مسلمين اليه، كان يقتضي تحقيق اهدافه تباعاً، القريبة عام 1968 والبعيدة عام 1970، بدءاً بتحديد حصة كل منهم في لوائح الائتلاف الانتخابي، واقناعهم بالقبول بها، والرضوخ لها كي ينجح الحلف. تولى توزيع الترشيحات والحصص على اللوائح، كل بحسب تقديره هو لحجمه.

ما لا يزال يتعذّر على رجال انتخابات 2018، مرّره بسهولة كاظم الخليل على رؤساء احزاب الوطنيين الاحرار والكتائب والكتلة الوطنية.

في مذكرات غير منشورة (كتاب «كميل شمعون آخر العمالقة»، 1988)، اورد كاظم الخليل الآتي:

«عرضت على الزملاء (الاركان الثلاثة) لائحة بتوزيع المقاعد النيابية بين احزابهم. بعد مناقشات محدودة مختصرة أقرّيناها كما هي، وأقرينا ان تبقى سرّاً ولا تذاع، وان نضع منها نسخة واحدة أحتفظ بها، على ان لا أُطلع احداً عليها حتى قبيل موعد الانتخاب بقليل. فعلاً بقيت سرّاً ولم أُطلع احداً عليها حتى النواب انفسهم. وهذا نصها:

ــ في دائرة الشوف: للرئيس شمعون ان يرشّح فيها مَن يريد.

ــ في دائرة بيروت (منطقة الاشرفية): للشيخ بيار الجميّل ان يرشّح فيها مَن يريد.

ــ في دائرة جبيل: للعميد ريمون اده ان يرشّح فيها مَن يريد.

ــ في دائرة عاليه: يُكلف الرئيس شمعون الاتصال بالامير مجيد ارسلان للاتفاق على المقعد الماروني والمقعد الارثوذكسي.

ــ في دائرة المتن الجنوبي: مرشّح كتلة وطنية، مرشّح كتائبي، مرشّح وطنيين احرار، مرشّح درزي ومرشّح ماروني يتفق عليهما بين الاحزاب الثلاثة في ما بعد وقبيل الانتخابات.

 

 

عندما وزّع كاظم الخليل حصص ثلاثة زعماء موارنة، فرضيوا بها

 

ــ في دائرة المتن الشمالي: مرشّح كتلة وطنية، مرشّح كتائبي، مرشّح وطنيين احرار، مرشّح ارثوذكسي ومرشّح ارمني يتفق عليهما بين الاحزاب الثلاثة في ما بعد وقبيل الانتخابات.

ــ في دائرة كسروان: مرشّح كتلة وطنية، مرشّح كتائبي، مرشّح وطنيين احرار، مرشّح ماروني يتفق عليه بين الاحزاب الثلاثة في ما بعد وقبيل الانتخابات.

ــ في دائرة البترون: تترك حرّة ويُدرس وضعها في ما بعد.

ــ في دائرة الزهراني: مرشّح كتائبي.

ــ في دائرة زغرتا: مرشّح احرار، مع محاولة اجراء حلف معه لمصلحة احد مرشّحي الاحزاب الثلاثة.

ــ في دائرة بشري: درس اوضاعها بين الاحزاب والاتفاق في ما بعد على تأييد بعض المرشّحين الذين نرى ان المصلحة توجب تأييدهم.

ــ في دائرة جزين: مرشّح كتائبي».

في حصيلة هذا التوزيع الذي وافق عليه الزعماء الموارنة، تبنّوا الآتي:

«1 ــ تمّ الاتفاق بيننا نحن الاحزاب الثلاثة على توزيع المراكز الانتخابية في المناطق المذكورة آنفاَ.

2 ــ المراكز التي لم يُقرّر مصيرها نهائياً يُتفق عليها في ما بعد.

3 ــ لكل حزب حق مطلق في ترشيح مَن يشاء في المركز المخصص له، وليس لأحد حق الاعتراض عليه او طلب استبداله.

4 ــ على كل حزب ان يؤيد مرشّحي الحزب الآخر الذي ترك له حق تسمية مرشّحه بالاستقلال.

5 ــ يفرض على الاحزاب الثلاثة التعاون في ما بينهم بكل اخلاص وفي كل المناطق والمجالات الانتخابية، باعتبار ان كل المرشّحين هم للاحزاب الثلاثة.

6 ــ يبقى اتفاقنا هذا سرّاً بيننا، ولا يُعلن عنه الا قبيل الانتخابات وفي الوقت الذي نقرّره.

7 ــ يبقى هذا الاتفاق محفوظاً في حوزة احدنا كاظم الخليل.

هذا ما اتفقنا عليه وتعاهدنا عل تحقيقه بكل امكاناتنا.

تحريراً في ….».

وضع الاتفاق معايير ثلاثة سيكون من الصعوبة بمكان على حلفاء انتخابات 2018 اتخاذها قياساً، وإن في ظل قانونين مختلفين:

اولها، حق تسمية الحزب مرشّحه مطلق اياً يكن، وليس لأي حزب الاعتراض على مرشّح الحزب الآخر في دائرة ائتلافهما.

ثانيهما، التسليم بمرجعية طرف ثالث يُظنّ انه محايد، كان في ذلك الوقت نائب رئيس احد الاحزاب الثلاثة (حزب الوطنيين الاحرار)، والرضوخ لقواعد توزيع الحصص كما يقترحها، مع ان كلا من احزاب الزعماء الموارنة هؤلاء كان يعتبر نفسه الاول في الشارع المسيحي تبعاً لمواصفاته: مرة بعديد المنضوين والانضباط، ومرة بمواصفات النزاهة والاخلاق السياسية، ومرة بهيبة رئيسه.

ثالثها، اقران الوفاء في التعاون والاقتراع بالحفاظ على سرّية الاتفاق. كان بينهم من العداء والتحفظ والشكوك والاتهامات المضمرة والمعلنة اكثر بكثير مما هو اليوم بين زعماء انتخابات 2018، بين الطوائف كما بين المذاهب. التزم رؤساء الاحزاب الثلاثة السرّية، ففازوا مذ ان اقرّ كل منهم بالحصة الموكلة اليه.

كانت تلك المرة الاولى في تاريخ الاحزاب الثلاثة تتحالف بمثل هذا التماسك والانصياع، مذ اضحت معاً في فلك الانتخابات النيابية العامة عام 1960. بيد انها انخرطت فيها كأحزاب في مواعيد متفاوتة: خاضها حزب الكتائب للمرة الاولى عام 1945 (الياس ربابي في انتخاب فرعي خسر فيه)، حزب الكتلة الوطنية للمرة الاولى عام 1947، حزب الوطنيين الاحرار للمرة الاولى عام 1960. الا ان انتخابات 1960، الاولى في عهد فؤاد شهاب، سجّلت للمرة الاولى، كذلك، اول انضاج لتجربة تنافس الاحزاب السياسية المسيحية الثلاثة في هذا الاستحقاق في اكثر من دائرة، بالتفاهم حيناً والتنافس طوراً.

في 22 شباط 1968 اعلن الحلف الثلاثي لوائحه الانتخابية، مختاراً 15 مرشّحاً في اقضية بعبدا والمتن وكسروان، مع ترك دوائر زعمائه ــ الى دائرة البترون ــ حرّة. في 8 نيسان اجريت انتخابات ذلك الزمان.

في تقويمه هذا التحالف قال كاظم الخليل: «لا شك في ان للرئيس شمعون مركزه الاجتماعي والسياسي في الحلف. اقوى زعيم مسيحي في لبنان، ما عزّز قدرة الحلف وامكانات تحرّكه وسهّل التوصل الى ما وصلنا اليه. لكن، للتاريخ، لم يكن يعتقد ان في الامكان جمع الخصمين ريمون اده وبيار الجميّل لشدة ما بينهما من عداء متأصل منذ زمن بعيد. كان يقول لي دائماً: انت تضيّع وقتك. إعفني منهما. لا يمكن العمل معهما، ولا يثبتان. ريمون اده كان يقول ايضاً: هذه طبخة بحص لن تستوي. الاقل كفراً بين الثلاثة كان الشيخ بيار، لكنه مثلهما لم يكن مؤمناً بامكان استمرار الحلف معاً. لما ادركوا ان مصلحتهم الشخصية والمصلحة العامة في البلد قد تأمنت في الحلف، مشوا فيه ودعسوا. الدليل ان ريمون اده لم يستطع طوال عمره النيابي ان يأتي سوى بنائبين او ثلاثة. في الحلف اخذ 6 نواب. وهذا ما لم يفعله في حياته. بعد انفراط الحلف لم يستطع ان يأتي بأكثر من نائبين. كميل شمعون صار عنده 7 نواب، ولحزب الكتائب 9 نواب للمرة الاولى في تاريخه».

ما يضيفه: «في انتخابات كسروان لم يكن للحلف مرشحون اقوياء، وانما ضعفاء للغاية. كانت ثمة رغبة في ترك المنطقة لفؤاد شهاب، لكنني عارضت وهدفي في الاساس كسره. قلت لهم: لا اقبل بترك كسروان. قالوا: لن ننجح. قلت: بلى وانا اعلّمكم كيف تنجحون. فؤاد شهاب ماشي مع عبدالناصر، اركبوا انتم الثلاثة سيارة مكشوفة وإعملوا جولة في كسروان».

فعلوا ذلك. جال الثلاثة في يوم واحد، في سيارة مكشوفة، على بلدات كسروانية. إستُقبلوا بحفاوة ولافتات وشعارات وصورهم. الثلاثة في صورة واحدة في مشهد نادر غير مسبوق، لم يتكرّر من ثم. الى ان انقضى النهار افضل مما بدأ بالنسبة اليهم. في المساء انتهت الجولة. غادر ريمون اده الى جبيل للمشاركة في مهرجان انتخابي هناك. قصد بيار الجميّل بيت الكتائب في ساحة جونيه. سلك كميل شمعون طريق الرجوع الى بيروت. على مسافة قريبة من بيت فؤاد شهاب قطع انصار الشهابيين الطريق على الرئيس السابق في حمأة الحماسة والحماسة المضادة وباستفزاز مشهود، ما اضطره الى مغادرة السيارة والتوجّه الى منزل احد اصدقائه، القريب من المكان، هو الدكتور فارس سعادة ومكث فيه ساعتين. منه اجرى مكالمة هاتفية بوزير الداخلية سليمان فرنجيه الذي أمر للفور، في ساعة متأخرة من المساء، بارسال مصفحات وعناصر قوى الامن لفتح الطريق بالقوة. في لحظة التعرّض لموكبه صرخ كميل شمعون: فؤاد شهاب باع لبنان لعبدالناصر ويا عدرا خلّصي لبنان.

ليل ذلك اليوم اصبح الرأي العام الكسرواني الذي لم يخدمه رئيس كفؤاد شهاب في المقلب الآخر، واسقط المرشحين الشهابيين الاربعة.

لم يعد احد يتذكر من انتخابات 1968 سوى كسروان، كما من انتخابات 1964 سوى اسقاط كميل شمعون في الشوف وريمون اده في جبيل، ومن انتخابات 1951 سوى انتصار الجبهة الاشتراكية الوطنية في الشوف ــ عاليه.

يصدف ان كسروان مهمة في انتخابات 2018. ليست مسقط الرئيس كانتخابات الدورات الثلاث في الستينات، لكنها مقعده منذ انتخابات 2005.

يصدف اكثر، في انتخابات 2018، ان ليس في كسروان ــ كما في سواها من دوائر الاقضية الاخرى ــ مشروع يجبه مشروعاً، بل مرشحون فقط. بعضهم يريد افتراس البعض الآخر، وربما أكله.