كتب عماد مرمل في صحيفة “الجمهورية”:
شكّل خطاب الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، أمس الاول، نقلة نوعية في سلوك الحزب وأدبياته. وبهذا المعنى، تعدّى الخطاب حدود شرح البرنامج الانتخابي وتشريحه الى إطلاق «مقاومة» جديدة ضد عدو خبيث وماكر، يتمثّل في الفساد الذي يحتلّ مؤسسات الدولة اللبنانية وإداراتها منذ زمن طويل، مُمعناً في الارتكابات على أنواعها.
واللافت للانتباه في الخطاب انّ نصرالله رفع سقف التحدي الى الحد الأقصى، مع تأكيده انه سيتابع شخصياً ملف التصدي للفساد، في اعتباره أولوية وطنية ملحّة، كاشفاً عن تشكيل إطار تنطيمي متخصص داخل الحزب لمواجهة الفساد والهدر، وداعياً الى حصر التوظيف بالخدمة المدنية واعتماد مبدأ المناقصات في التلزيمات وتفعيل دور الهيئات الرقابية، وغيرها من التفاصيل الحيوية المتصلة بتحقيق الاصلاح على كل المستويات في الدولة.
ويبدو واضحاً انّ «الحزب»، بإعلانه الحرب على الفساد، يكون قد قرّر الدخول في مغامرة محفوفة بالمخاطر، سبق له أن تفاداها كثيراً في الماضي، على قاعدة إعطاء الاولوية لمواجهة الخطر الاسرائيلي والتهديد التكفيري، وتَجنّب فتح جبهة داخلية في خط ظهره، قد تشتت طاقاته وتسبّب له عداوات وخصومات اضافية.
أدرك الحزب انه لم يعد في إمكانه الاستمرار في التهرّب من الخوض في هذا الاستحقاق المؤجّل، وانه لا بد له من المواءمة بين حضوره الضروري في مواجهة التحديات الاستراتيجية ودوره المفترض في معركة مكافحة الفساد أيّاً كانت الكلفة المحتملة.
لقد تبيّن للحزب انّ ثمن مواصلة سياسة الانكفاء هو أكبر من الضريبة التي قد يدفعها جرّاء الانخراط العميق في مشروع إصلاح الدولة، خصوصاً انّ هناك بين خصومه من يحاول جاهداً أن يملأ «الفراغ» الذي ترتّب على تَراخيه في مقاربة الملفات الداخلية، بغية «قَضم» بعض المساحات في مناطق نفوذه، وهذا ما ظهرت مؤشّراته في وضوح عبر مسعى منافسي الحزب في دائرة بعلبك – الهرمل لاستغلال نقاط الضعف الانمائية والاجتماعية في تلك المنطقة بغية استقطاب الأهالي الناقمين على الواقع.
وعليه، حسم الحزب أمره، وقرّر أن يستجيب لرغبة شريحة واسعة من بيئته الحاضنة في أن يغادر «الشرفة» التي كان يطلّ منها على الازمات الاقتصادية والاجتماعية، وان ينخرط بكلّ ثقله في معركة «تحرير» الدولة من الموبقات المُفترسة التي تمعِن في نَهش القانون والاصول والدستور والخزينة، متسبّبة في إفقار جزء واسع من الشعب اللبناني، خصوصاً في المناطق الرافدة للمقاومة.
وما يؤشّر الى جدية الحزب، هو انّ نصرالله نفسه أخذ على عاتقه متابعة مجريات المعركة ضد الفساد، الأمر الذي يعني انه وضع رصيده وصدقيته على المحك، بفِعل صعوبة هذا الملف وتعقيداته الشديدة. وما يضاعف حجم المسؤولية الملقاة عليه هو حجم الآمال والتوقعات التي وَلّدها كلامه، إنطلاقاً من ثقة جمهوره ومناصريه في قدراته، بالاستناد الى حصيلة التجارب السابقة التي تُبيّن انه متى قال فعل، ومتى التزم وفى، ما يضعه امام اختبار دقيق، لعله أصعب من اختبار النزاع مع العدو الاسرائيلي والارهاب التكفيري، لأنّ لجم الفاسدين وتجفيف ينابيعهم المتدفّقة قد يكون أصعب من تحرير الجنوب والجرود!
وقرار «حزب الله» المساهمة النوعية في الحرب على الفساد، ربما يقوده لاحقاً الى صدامات مع الخصوم والحلفاء على حد سواء، وهذا ما يبدو «السيد» محتسّباً له ومستعداً لتحمّل تبعاته وأعبائه، لإدراكه أنّ مواجهة مفصلية من هذا النوع لا يمكن ان تُخاض بالقفّازات أو الاقنعة، بل انّ معيار الصدقية والنزاهة فيها يكمن في عدم التمييز بين الخصم والحليف عندما يتعلق الأمر بالتصدي للارتكابات والصفقات.
وفي حين يشكّل سلاح المقاومة موضع خلاف وانقسام بين فريقين سياسيين معروفين، فإنّ مواجهة الفساد قد تفرز اصطفافاً آخر من شأنه ان يجمع الخصوم التقليديين ويفرّق الحلفاء الحاليين، وصولاً الى إعادة خلط الاوراق ورسم التقاطعات، بعد الانتخابات النيابية وولادة مجلس جديد.
والأرجح، انّ البعض سيندم على مطالبته المتكررة للحزب بأن يتوغّل في ملف مكافحة الفساد وإصلاح الدولة، وسيتمنى لو بقيت المقاومة متفرّغة للجبهات الاستراتيجية، لأنه سيكتشف نمطاً جديداً وغير مألوف من السلوك، كما تلمح أوساط قريبة من الحزب.
وإذا كان كثيرون يتساءلون عن الطريقة التي سيستثمر فيها «حزب الله» انتصاراته من الجرود الى الجوار، فإنّ ما يمكن استنتاجه بعد كلام نصرالله هو انّ الحزب في صدد توظيف مفعول إنجازاته (أو ما يسمّيه خصومه «فائض القوة») في مشروع إصلاح الدولة ومحاربة الفساد، بحيث يكون المردود وطنياً وليس فئوياً.
ورسالة نصرالله ليست موجهة الى الداخل فقط، بل هي تخاطب الخارج ايضاً على وقع مؤتمرات الدعم الدولي للبنان. لقد أراد الامين العام لـ «حزب الله» الإيحاء بأنّ المعنيين في المجتمع الدولي ليسوا المولجين أن يضعوا للدولة السياسات الاقتصادية والمالية ويحددوا لها الأولويات والخيارات، وإنما هذه المهمة مُناطة بالمجتمع السياسي اللبناني الذي يرسم مساره في هذا المجال، تِبعاً لمصالحه الوطنية، علماً انه إذا كانت الجهات الدولية مهتمة حقاً بخفض منسوب الفساد والهدر لمساعدة لبنان، فإنّ «حزب الله» يمثّل أحد «صمّامات الأمان» التي يمكن ان توقف هذا الاستنزاف، خصوصاً بعد اعتزامه استعادة المبادرة لهذه الجهة، وفق الاوساط المحيطة بالحزب.
وأبعد من هذه الحدود، يشير العارفون الى انّ «حزب الله» أراد كذلك أن يبلغ الى من يهمه الأمر انّ العقوبات المالية الاميركية على عدد من كوادره ومؤسساته لن تمنعه من ان يؤدي دوره في صميم مشروع بناء الدولة، على قاعدة أنه شريك في تحديد الاتجاهات الاقتصادية والمالية للبنان، وليس صحيحاً انه مستقيل من هذه المهمة او انه جَيّرها لغيره.