ولن يُخْفي فائضُ الضجيجِ وسطوته مع إطلاق العنان للحملات الانتخابية الهوجاء وجيوش ماكيناتها، الطبيعةَ السياسية للإستحقاق الأهمّ في صنْع القرار في لبنان، وما انطوتْ عليه التحالفات في الطريق الى الإنتخابات من ملامح واقعٍ جديد قد يخرج من صناديق الاقتراع، ويُفْضي إلى تعديل قواعد اللعبة تماشياً مع مقارباتٍ داخلية للمتغيرات الخارجية في ضوء حسابات اللاعبين المحليين ومَصالحهم.
فالانتخابات النيابية في لبنان تَجري فوق صفيحٍ إقليمي لاهب تتطاير شظاياه من الباليستي الحوثي – الإيراني على السعودية وإستمرار «الترانسفير» الجَماعي في سورية وتَقاسُمها من احتلالات مقنّعة، والحرب الاسرائيلية الأكثر احتمالاً مع تَحوُّل إدارة دونالد ترامب «مجلس جنرالات»، وتَزايُد الضغوط الأميركية على إيران – النظام والنووي والنفوذ، وتمادي جنوح المنطقة بأسرها نحو صراعٍ دولي – إقليمي بلا هوادة.
ويشي الحِراك الانتخابي التصاعدي في بيروت على وهج الحماوة الإقليمية بأن لبنان، المُصان بتسويةٍ سياسية تحمي استقراره، مرشّحٌ لصراعِ أحجامٍ وتوازنات تحت سقف الستاتيكو عيْنه، وسط تَقاطُع مصلحةِ الداخل والخارج حول منْع امتداد النار الإقليمية إليه، لكن في إطار دفترٍ شروطٍ جديد إسمه الحرَكي النأي بالنفس والاستراتيجية الدفاعية، أي التفاهم على الحدّ من أدوار «حزب الله».
ومقياس هذا المتغيّر في المعادلة الداخلية ذات البُعد الخارجي هو الاهتزاز الذي يصيب تحالف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل. فرغم أن هذا التفاهم الذي أَمْسك طويلاً بـ «اللعبة السياسية» لن يقع نتيجة مصلحة الطرفين في بقائه على قيد الحياة، فهو معرّض لأكثر من انتكاسة تجعله أسير أزمة ثقةٍ متبادلة بين الطرفين.
ومع تَزايُد الهمس في الأوساط السياسية المحيطة بـ «حزب الله» عن الأداء المقلق لباسيل وتَكيُّفه مع أجندات خارجية، فإن ثمة تقديرات بأن الحزب يراهن على دورٍ يمكن أن يلعبه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لمعاودة تصويب العلاقات بين التيار والحزب، وهو ما دفع أوساطاً سياسية الى التوقع عبر «وكالة الانباء المركزية» قيام الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بزيارة للقصر الجمهوري بعد الانتخابات.
ويحلو للدوائر المراقبة في بيروت القول إن رئيس الحكومة سعد الحريري نَجَح في استمالة «الوطني الحرّ» عبر تَفاهُم عميق مع باسيل، الذي أدرك من موقعه في السلطة، أن لا مصلحة في معاداة المجتمعين العربي والدولي اللذين يحتاج إليهما لبنان للمساعدة في وقْف الانزلاق نحو انهيارٍ حتمي أشار إليه عون أخيراً عندما نَقَل عنه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي عنه قوله إن البلد «مفلس».
هذه التموّجات السياسية، ستحضر بقوّة في أولى الاستحقاقات بعد الانتخابات، أي تشكيل حكومة جديدة لن تبصر النور سريعاً لأنها ستكون أشبه بـ «وعاءٍ» لصراع أحجامٍ وأدوار وتوازنات تختلط فيها الحسابات الداخلية والخارجية على حدّ سواء وخصوصاً ان القوى الأساسية لن تتساهل إزاء حصّتها في كعكة السلطة وما تعبّر عنه من إمساك بمَفاصل الحكم وتوجهاته.
وتجلّت مقدّمات هذا الصراع في طبيعة التحالفات الانتخابية التي أخذتْ شكلها النهائي منتصف ليل أمس مع قفْل باب تسجيل اللوائح التي لا يمكن خوض استحقاق 6 مايو من خارجها، راسمةً لوحة فسيفسائية موزّعة على 15 دائرة حدّدها القانون الذي يعتمد للمرة الأولى نظام الاقتراع النسبي مع صوتٍ تفضيلي.
وبين انتهاء مهلة تسجيل اللوائح وفتْح صناديق الاقتراع، يضرب لبنان موعديْن مع مؤتمريْن لدعمه، الأوّل في باريس (سيدر 1) في 6 ابريل (لدعم الاستثمار) والثاني في بروكسيل أواخر الشهر نفسه (لمساعدته بالتصدي لأزمة النازحين).
وفي حين أنجز لبنان خطّته الى مؤتمر «سيدر» تحت عنوان «البرنامج الوطني الاستثماري للبنى التحتية» ويبذل جهوداً كبيرة لإنجاز موازنة 2018 قبل انعقاده لما تتضمّنه من منحى إصلاحي يشترطه المانحون، بدأت الاستعدادات الفعلية للمؤتمر مع الاجتماع التحضيري الذي عُقد أمس في باريس في حضور ممثلين للدول المانحة، ووفد لبناني وزاري – استشاري موسع اضافة الى وفد من المؤسسات الدولية العاملة في لبنان.
وبدا واضحاً أن مؤتمرات باريس وبروكسيل وقبلهما روما – 2 تسعى إلى تشكيل حاضنة دولية لاستقرار لبنان على قاعدة تقوية مؤسساته تحت سقف تعزيز مكانة الدولة وتحجيم أدوار «حزب الله» ولا سيما الخارجية، وهو ما يتم التعبير عنه بتأكيد وجوب معاودة بحث موضوع سلاحه بعد الانتخابات في إطار ما يُعرف بالحوار حول «الاستراتيجية الوطنية للدفاع» وتطبيق سياسة «النأي بالنفس» عملياً.