كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
قبل بضعة أسابيع، كشف رئيس الحكومة سعد الحريري، أمام هيئة مكتب المجلس الاقتصادي الاجتماعي عن احتمال حصول انهيار اقتصادي ونقدي. يوم الجمعة الماضي صرّح البطريرك بشارة الراعي، نقلاً عن رئيس الجمهورية ميشال عون، أن لبنان مفلس. الرئيس نبيه برّي يردّد العبارات نفسها في مجالسه… هكذا هو لسان حال السلطة يتحدّث عن «الخراب» مقابل ترويج للحلّ عبر مؤتمر «باريس 4». كلام يسبق الانتخابات النيابية بأشهر، فهل تعرض هذه السلطة أن تكون المخلص الذي يحتاج إلى تجديد شرعيته في الحكم، وإلا فالخراب؟
التحضيرات لمؤتمر «باريس 4» متواصلة. وزير الاقتصاد رائد خوري سافر إلى فرنسا أمس للمشاركة في الاجتماعات التحضيرية. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يعكفان على وضع وصفة ــ خريطة طريق اقتصادية للشروط المطلوبة من لبنان مقابل القروض الميسّرة التي ستخصّصها الجهات المانحة للبنان. مجلس الإنماء والإعمار رفع إلى مجلس الوزراء برنامجاً للاستثمار العام أقرّ في الجلسة الاخيرة بقيمة إجمالية تبلغ 23 مليار دولار تمتدّ على ثلاث مراحل زمنية بين 2018 و2030. هناك ورقة أخرى يضعها مستشار رئيس الحكومة نديم المنلا، هناك استراتيجية للاقتصاد اللبناني تضعها «ماكنزي»… في ظاهر الأمر، يبدو أن هناك حالة استنفار واسعة عنوانها «الحلّ في باريس 4»، لكن على أرض الواقع فإن الأزمة ــ المصيبة القائمة اليوم تكرّرت سابقاً ونجا منها لبنان بفضل ظروف قد لا تكون متوافرة اليوم. لذا، إن مؤتمر «باريس 4» ليس حلاً، بل هو ورطة بعدما «دخل في مرحلة الريبة التي تسبق الإفلاس» يقول رئيس حركة مواطنون ومواطنات شربل نحاس.
لماذا مرحلة الريبة؟ في اعتقاد نحاس، أن مؤتمر «باريس 4» ليس سوى نسخة عن المهرجانات السابقة التي كان لكل واحد منها ظروفها المحلية والإقليمية. فالمؤتمر اليوم يعبّر عن المعادلة الآتية: هم (الجهات المانحة) يشترون بالقروض التي ستمنح للبنان، الإبقاء على النازحين السوريين في لبنان بما يحول من دون هروبهم إلى أوروبا، فيما «يكسب» لبنان وقتاً أطول لانفجار الأزمة. وهذه القروض تقترن بمهل زمنية للتنفيذ والإيفاء، أي إنه في حال تخلُّف لبنان عن التنفيذ والإيفاء، تترتب عليه غرامات تصل إلى حدّ رفع دعوى تحكيم دولي لفرض الالتزام أو استرداد الدين، وهو ما يتيح للجهات المانحة أن تحجز على أصول لبنان أينما وجدت في العالم.
معادلة خطيرة جداً في ضوء الحديث عن احتمال انهيار اقتصاد لبنان وإفلاسه، إذ يبدو الأمر كمن يرهن آخر ممتلكاته للمرابين من أجل لعبة أخيرة على طاولة القمار! فالحديث عن الانهيار والإفلاس بات على كل لسان في لبنان من رأس الهرم على لسان الرؤساء الثلاثة إلى الطبقات العاملة في الشارع. وهذا ما يوجب تحديد موقع لبنان من الأزمة ومن مؤتمر «باريس 4»، لأنه في الفترة التي تسبق الانهيار والإفلاس مباشرة، تقع مرحلة الريبة التي يبحث فيها المدين عن استمراريته بالاستدانة، فيما يستغلّ الدائن هذا الوضع للسيطرة على ممتلكات المدين.
وبما أن الإفلاس لا يتعلق بشركة ما، بل بدولة لبنان، فإنه يجب الوقوف ضدّ قوى السلطة ورفض «كل العمليات التي تقع في الفترة التي تسبق الإفلاس، ويجب اعتبار كل التزام جديد على لبنان هو غير متوجب لأنه يأتي ضمن فترة الريبة المشروعة». ويضيف نحاس: «كل اتفاق في باريس 4، أو ينتج منه، لن يُعترف به. لا الدين ولا العقود ولا مندرجاتها. لن نقبل إخضاعنا للتحكيم في نيويورك، بهدف وضع اليد على أموال وأصول يضعها مصرف لبنان في الخارج، وينتهي البلد بأنه غير قادرة على استيراد قمح وأدوية».
إذاً، هل مؤتمر «باريس 4» هو الحلّ كما تروّج قوى السلطة. حاكم مصرف لبنان يرى أن «باريس 4» يشكّل فرصة لإنعاش التدفقات النقدية الطازجة من الخارج، لكن نحاس يرى أن هناك دلائل كثيرة على أن استقطاب الدولارات من الخارج بواسطة هذا المؤتمر ليس مجدياً. «هم مخطئون في أن الشراكة مع القطاع الخاص لن تكون حصيلتها النهائية المزيد من الضغط على العملة. فالمعروف أن الاستثمارات التي تأتي بالعملات الأجنبية يهمها أن تُخرج مداخيلها بالعملات الأجنبية» وفق نحاس.
الرغبة الشديدة في استقطاب الدولارات الطازجة من الخارج ليست مدفوعة بالحل الباريسي، بل بوهم تروّج له قوى السلطة عن قدرتها على إحياء النموذج الاقتصادي الذي يتيح لها الاستمرار بالإمساك بالسلطة. فالنموذج الحالي القائم على «دعم سعر الليرة بالاستدانة» على حد تعبير رئيس الجمهورية ميشال عون، هو الذي سينهار مهدداً نظام الحكم بكامله.
عبارة رئيس الجمهورية كان لها صدى واسع يوم استقباله وفد جمعية المصارف وإطلاق موقف شرس، ضدّ الاستمرار بدعم الليرة بالاستدانة ومطالباً بدعمها عبر الإنتاج. كان يؤمل أن يتحوّل هذا الموقف إلى سياسة اقتصادية، لكن الخطاب الرسمي انحدر سريعاً نحو الحفاظ على النموذج الحالي من خلال مؤتمر «باريس 4». فالدعم عبر الإنتاج، يعني أن لبنان بحاجة إلى زيادة إنتاجه لتغطية استهلاك الأسواق المحلية وللتصدير الذي يكون مردوده العملات الأجنبية. النموذج الحالي القائم على تثبيت سعر الليرة، يتطلب استقطاب الأموال من الخارج. ما لا يدركه غالبية اللبنانيين أن الأموال تأتي على شكل ديون وتعود إلى الخارج ثمناً لشراء السلع المستوردة، وأن نتيجة هذا الأمر كارثية: «تورّم هائل في الأسعار، ضمور في القطاعات التي تنتج سلعاً قابلة للتصدير، ارتفاع أسعار الأراضي إلى مستويات جنونية…». نموذج لا يخلق الوظائف، بل يحفّز الاستهلاك والاستيراد. بمعنى آخر، فرض النموذج الدخول في نفق «الترضية والتوظيف والدحوشة في القطاع العام كي لا تفرط المنظومة السلطوية. الفساد هو منظومة فعلية من خلالها هذه السلطة قائمة».
بدأ هذا «الفيلم» بعد خروج لبنان من الحرب الأهلية. في ذلك الوقت «صفّرنا الحسابات وأعفينا عن السرقة والقتل، ووضعنا الناس تحت ضغط الرشوة بالتوظيف وخفض الضرائب والأموال الآتية من الخارج… يومها قال الرئيس رفيق الحريري، إننا اشترينا السلم الأهلي بالدين. يعني أخذنا مصريات الناس حتى نبرطل الميليشيات. الدين العام لم يأت بالخطأ، لأنه من دونه لا تعمل هذه المنظومة».
بعد بضع سنوات انتهى الفيلم «فاتخذ القرار بوقف الاستثمارات كلياً وتجميد الأجور في القطاعين العام والخاص. للتذكير، يومها كانت الكهرباء 24 ساعة» وفق نحاس.
منذ ذلك اليوم، لم تتطور معامل الإنتاج الكهربائي لتتماشى مع الطلب الاستهلاكي، ولم نعد نوظّف في القطاع العام إلا بطرق ملتوية للتابعين، وتدهورت الخدمات العامة ووضعت السلطة يدها على الاتحاد العمالي العام… هذا الوضع الذي نعاني منه اليوم لم يكن صدفة، بل هو نتيجة لهذا النموذج. والمشكلة اليوم أن القوى التي ركبت هذا النموذج تشكو من نتائجه وتسعى لإحيائه عبر باريس 4. «ألا يعرف هؤلاء الذي تعاقبوا على الحكم أن هناك زحمة سير وليس هناك كهرباء ولا مياه؟ هل ينقصهم دراسة ومشورة؟ لا يجب أن نطلب النصح والرأي منهم، لأن ذلك له مردود واحد، وهو جعلهم يظهرون أمام الناس أن لديهم شرعية. تصوروا أن هؤلاء سموا اسم حكومتهم استعادة الثقة وهم مستعدون لدفع الأموال للاستمرار بهذه الكذبة. يعترفون بأنهم فاقدون الثقة» يقول نحاس.
رغم ذلك، فإن الوضع الحالي يفرض حدوداً تلقائية، واحدة منها مواصلة الاستدانة بطريقة تركيب الطرابيش، لكن هذه اللعبة ستنتهي يوماً ما.
شكوى الطبقة الحاكمة تكمن في إدارة النموذج. الوضع الحالي يفرض عليهم مرحلة «شطارة استثنائية في كسب الوقت والمتاجرة بالقلق». من هنا يمكن تفسير إقرار موازنة 2018 المتأخرة 6 أشهر عن وقتها وبلا حسابات وهي تسمّى إنجاز. «هي إنجاز لأنهم يقولون إن حفلة الشحادة لا يمكن أن تقوم من دونها في مقابل خيار وحيد هو الانهيار… الأزمة ليست الخطر، بل استمرارهم هو الخطر».
التصحيح الطوعي الآن
يقترح شربل نحاس أن تقوم الحكومة بالتصحيح المالي الطوعي عبر إعادة ترتيب المخاطر تلافياً لتركّز الخسائر في أموال الضمان والودائع الصغيرة والديون المتوجبة على الأسر. ترتيب المخاطر، في رأيه، «ضروري حتى لا ينهب الزعران مقدرات الناس يوم الانهيار، وهذا يستوجب التحوّط ضد عمليات السلب حتى لا تحجز محكمة أجنبية على أموال لبنان في الخارج».
ويطالب نحاس الطبقة البورجوازية الحاكمة بتحمل مسؤولياتها في إدارة عملية الانتقال وترتيب الخسائر، إذ «يتطلب الأمر قيادة حقيقية وليس النأي بالنفس من أجل الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات إنتاجية… ففي نهاية الأمر، هناك سؤال تفرضه الأزمة علينا: من يبقى في هذا البلد، الناس أم العصابة أم مجموعة من الناس الفقراء الذي قذفتهم الأرض إلينا؟».
في عام 1997 كان الدين العام يبلغ 18 مليار دولار «ولم تجرؤ السلطة على القيام بخطوات إصلاحية. وفي 2004 و2005، خططنا لتصحيح يتضمن تصحيحاً مالياً وإدارة سياسية للمرحلة الانتقالية وتوزيع الخسائر، بجرأة، على المجتمع. سوقنا للأمر مع صندوق النقد والبنك الدوليين وفرضنا عليهم القيام بحسابات مجمعة للدين العام (تشمل حسابات مغارة مصرف لبنان حيث نخبئ فيها كل الألاعيب). لكن الظروف أسقطت هذا الرهان.
في 2010، كنّا عائمين على الأموال المتدفقة من الخارج ووضعنا خطّة للتخفيف من كلفة التصحيح الطوعي وافق عليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتراجعت وزيرة المال ريا الحسن عن موافقتها لاحقاً».
البيعة المشبوهة
في مؤتمر باريس 3 كانت هناك رغبة في إعادة تطويق لبنان مالياً بعد فشل الهجوم الحربي. يومها همست بعض الأطراف اللبنانية للقيّمين على المؤتمر بأن يضعوا شرطاً يتضمن بيع شبكتي الخلوي. «يومها قلنا إن 70% من مداخيل الخلوي هي ضرائب، وقلنا لهم إذا بعنا الضرائب أصبح هناك احتكار من يملكه يسعى لكسب هذه الإيرادات بدليل أن السعر المطروح في آخر مزايدة لبيع إحدى شبكتي الخلوي، يمثل اليوم نصف الأرباح الصافية لهذه الشبكة»، وفق الوزير السابق شربل نحاس.