كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:
“كان هناك، وقد التقيته. أخذ الحقيبة ووضعها جانبا، ولم يرغب في عدّ الأموال” هذا ما قاله رجل الأعمال الفرنسي اللبناني الأصل زياد تقي الدين عن لحظة تسليمه لأموال مبعوثة من طرف الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، أما المكان الذي يصفه فهو شقة في مبنى وزارة الداخلية الفرنسية، أما الشخص الذي استلم الحقيبة، فقد كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي.
يتابع تقي الدين في حديث مع “فرانس إنفو” القول “تفتح الباب، فتجد صالونا طويلا مفتوحا على كل المنزل. التقينا في البهو، الذي يوجد بجانبه مكتب صغير وعليه هاتف ثابت، استخدمه ساركوزي للاتصال بالسيد السنوسي، ليبلغه بأنه استلم الأموال”.
يقول بانفعال عن ساركوزي “إنه كذاب. لقد التقيته في شقته. مرة التقيته في ليبيا، ومرة أخرى التقيته بحضور وزير الداخلية الفرنسي حينها كلود غيان. هناك شهود عيان حضروا اللقاءين”.
وليس غريبا في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية أن يحاكم مسؤولون حاليون أو سابقون بتهم تتعلق بالفساد أو استغلال النفوذ أو سوء الإدارة. هذا الأمر ينطبق على العديد من الدول العالمية وفي مقدمها فرنسا التي غرقت مؤخرا في أخبار تتعلق بوضع ساركوزي تحت المراقبة القضائية.
الوضع تحت المراقبة تعبير قانوني يرتبط بفتح ملف تحقيق قضائي في حق شخص يمكن أن توجه إليه لاحقا تهم جنائية.
المثير في قضية ساركوزي هو أن القضاء تحرّك لملاحقته بعد ورود أقوال على لسان سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والذي طالب ساركوزي بإعادة الأموال التي قبضها من والده لقاء تمويل حملته الانتخابية الرئاسية، وما زاد الطين بلة هو أن زياد تقي الدين أكّد أنه سلّم بنفسه إلى مدير مكتب ساركوزي السابق كلود غيان مبالغ مالية نقدا على دفعات بلغت حصيلتها خمسة ملايين يورو.
صفقات سلاح
لم يتوقف تقي الدين عن كشف الحقائق المثيرة التي يملكها وتتعلق بفساد الرئيس الفرنسي الأسبق وفريق عمله، منذ أن تعرّض هو نفسه إلى ملاحقة قضائية في فرنسا كانت تتعلق أولا بقضية عدم دفع عمولات عن صفقة الأسلحة الفرنسية إلى باكستان، ومن ثم لغياب الأدلة الكافية لدعم هذه التهمة بحقه، خيطت له مؤامرة التهرّب من دفع الضرائب والتي كانت بطلتها طليقته، فكان ضحية ملاحقات لا تزال مستمرة لغاية اليوم.
لكنه في قرارة نفسه وقد أعلن عن ذلك مرارا أمام الإعلام، يدرك أن المسألة في حقيقتها ذات دوافع سياسية تهدف إلى تبرئة “الفرنسيين الكبار” بينما هو ليس سوى “مجنّس” آت من لبنان يمكن التضحية به وتحويله إلى “كبش فداء”، وهو يصرّ على متابعتها إلى النهاية ولو اضطره الأمر إلى فضح المزيد من الأسرار التي يملكها.
ولد تقي الدين في العام 1950 في بلدة بعقلين الشوفية. والده منير تقي الدين كان أحد ألمع وجوه الإدارة اللبنانية في تلك الفترة، فبعدما كان أحد رموز قيادة الثورة الشعبية التي سبقت إعلان استقلال لبنان عن فرنسا في العام 1943، أصبح مديرا عاما لوزارة الدفاع الوطني، ثم محافظا للشمال قبل انتدابه إلى السلك الخارجي، حيث مثل لبنان كسفير لدى السودان ويوغوسلافيا وقبرص.
وبطبيعة الحال نشأ تقي الدين الابن في كنف عائلة محافظة، اشتهر أفرادها بالعلم والأدب والقانون والسياسة، فعمه بهيج كان نائبا ووزيرا، وعمّه سعيد كان أحد أهم أدباء عصره وكذلك عمّه خليل الروائي والقصصي الشهير والذي عمل في السلك الخارجي أيضا، فكان لا بد أن يتأثر زياد بهذا الجو العائلي ويدفعه إلى التماس العلم وسيلة للتقدّم في الحياة، فكان طالبا متفوقا في الجامعة الأميركية في بيروت حيث تابع دراسة العلوم السياسية، وكان من زملائه في الدراسة رئيس “اللقاء الديمقراطي” النائب وليد جنبلاط، نجل كمال جنبلاط الصديق والحليف المقرّب من عائلة تقي الدين.
مصادفة في جبال الألب
بعد تخرّجه من الجامعة، عمل في حقل الإعلان والعلاقات العامة، غير أن نذر الحرب الأهلية اللبنانية مع مطلع العام 1975 كانت تشي باشتداد العاصفة، فما كان من زياد إلا أن طرق أبواب الهجرة بحثا عن مستقبله، فكان أن وصل إلى جبال الألب الفرنسية ملتحقا بمنتجع “إيزولا 2000” الشهير للتزلّج بناء على نصيحة أحد أصدقاء والده، ومن هناك بدأت رحلته مع النجاح الذي أصاب منه ثروة مادية وعلاقات دولية كبيرة.
استطاع أن يكوّن في هذا المنتجع السياحي المخصص لنخبة المجتمع الفرنسي والعالمي، شبكة علاقات واسعة أوصلته بسبب طموحاته الكبيرة إلى دخول عالم الأعمال من خلال لعب دور الوسيط لشركات الأنظمة الدفاعية الفرنسية، فكان يراكم عاما بعد عام علاقات مع دول وأنظمة تهتم بشراء باكورة الصناعات العسكرية الفرنسية.
تولى تقي الدين الوساطة في صفقة شراء باكستان غواصات فرنسية الصنع من طراز “أغوستا” إلى جانب زوارق بحرية، وفي كل ذلك، كان يتولى التفاوض باسم الحكومة الفرنسية دون أن يكون موظفا فيها، لكنه يحمل ثقة المسؤولين الفرنسيين به، فقد كان محط إعجاب وتقدير كبيرين من قبلهم.
تمكّن بعد ذلك، من نسج علاقات مع العدد الكبير من رجال الأعمال العرب، وخاصة أولئك المرتبطين ارتباطا مباشرا بالعائلات العربية الحاكمة، فنجح أيضا في إتمام صفقة السلاح الفرنسية الشهيرة مع حكومة المملكة العربية السعودية والتي عرفت باسم صفقة “الصواري 2”.
ويبدو أن الحاسدين، كما يقول تقي الدين، قد تآلبوا وتآمروا ضده لقطع يده وكفّ دوره في صفقات السلاح الفرنسي، وبدأوا يكيدون له، فكانت طلائع مؤامرتهم اتهامه بتمويل غير شرعي لحملة الانتخابات الرئاسية لادوار بالادور بواسطة العمولات غير المسددة من صفقة “أغوستا” مع باكستان. ومن حينها بدأت المشكلات القانونية لتقي الدين مع النظام القضائي الفرنسي تتراكم، فقرّر عدم الاستسلام والمواجهة، حتى لو اضطره الأمر إلى كشف العديد من الأسرار المالية التي كان يملكها.
لدى استدعائه أمام القضاء، بدأ تقي الدين يسرد وقائع الصفقات التي توسط فيها، كما كشف عن بعض المسائل المالية التي تبيّن فساد من هم وراء تدبير المكائد له، الأمر الذي وصل إلى حد دفع القضاء الفرنسي إلى حجز أموال تقي الدين المنقولة وغير المنقولة، بعدما فبركت له بضلوع من زوجته، قضية التهرّب من دفع الضرائب.
وفي كتاب أصدره تقي الدين بعنوان “أسرار الساركوزية” يكشف فيه أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الذي اعتقد أن جزءا من العمولات المرتبطة بالصفقة السعودية، قد استعمل سرا لتمويل حملة الانتخابات الرئاسية لغريمه إدوار بالادور، كان قد أصدر أمرا بعد فوزه بالرئاسة بوقف تسديد ما بقي من العمولات المستحقة لصالح الوسطاء السعوديين. فوجه تقي الدين حينذاك كتابا عبر صديقه وزير الخارجية اللبنانية فارس بويز إلى رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري يشتكي فيه ما لحق به وبالسعوديين من ضرر بسبب قرار “صديقه شيراك”.
في بيت الحريري الأب
يقول تقي الدين إن الحريري استدعاه إلى بيته في باريس، ووعده بمفاتحة شيراك في الأمر، لكنه طلب منه في المقابل «خدمة صغيرة» تمثلت في التوسط لدى الأمير سلطان بن عبدالعزيز لصرف مستحقات متأخرة تتعلق بتشييد قصر بقيمة مليار و380 مليون دولار.
لا يخفي تقي الدين أنه فوجئ بضخامة المبلغ، لكنه وعد الحريري بالتوسط لدى الأمير. وبالفعل قبل الأخير بصرف المبلغ، رغم أنه قال إنه لم يكن راضيا عن الحريري؛ لأن أعمال تشييد القصر لم تكن بالجودة المطلوبة. اتصل بعدها الحريري بتقي الدين، ليؤكد له أنه تحدث مع شيراك، وأنه سيدفع له مستحقاته كاملة، لكن تقي الدين طلب من الحريري تعهدا مكتوبا، فأجاب “لا يُعقل أن نطلب ضمانة خطية من رئيس الدولة الفرنسية. أنا سأكتب لك شيكاً بالمبلغ”، وهذا ما حصل.
وبعد أن تفجّرت الخلافات بين تقي الدين وطليقته البريطانية نيكولا جونسون، قامت الأخيرة بالانتقام من خلال إمداد موقع “ميديا بارت”، الذي يديره رئيس تحرير “لوموند” السابق إيدوي بلانر، المعروف بعدائه الشديد لساركوزي، بالكثير من الصور والوثائق والمراسلات الشخصية التي تثبت ارتباطه بصلات وثيقة مع عدد من أقرب معاوني ساركوزي.
قطر وممرضات ليبيا
لم يكشف تقي الدين أي أسرار محرجة عن أصدقائه الساركوزيين. لكن تسرّب تلك الوثائق إلى الصحافة، واستدعاء طليقته البريطانية من قبل قاضي التحقيق، وضعا مستشاري الرئيس الفرنسي في موقف حرج اضطرهم إلى إنكار الصداقة التي تجمعهم بتقي الدين.
وكان الأكثر حدّة في إنكار صلاته هو كلود غيان، الذي قال “لست صديقا لزياد تقي الدين، ولا تربطني أي صلة به، لأنه شخص يتصرف تصرفا غير أخلاقي”، وهو ما أثار حفيظة تقي الدين، فكشف في كتابه أن غيان كان يستقبله في بيته “في حضور زوجته الطيبة، التي كان لا يخفي عنها أي أسرار”، وذهب إلى حد القول إن وثوق الصلات بينه وبين غيان جعل هذا الأخير “يكوي بنطالي بنفسه، خلال إحدى زياراتنا العديدة إلى الرياض”.
من الواضح أن تقي الدين لم يكشف كل ما يعرف عن أسرار ساركوزي المالية، خشية أن ينعكس ذلك عليه شخصيا في التحقيق القضائي المتعلق بالفساد المرتبط بصفقات الأسلحة مع السعودية وباكستان، لكنه وجّه إشارات قوية إلى الفريق الرئاسي الفرنسي، للدلالة على أنه لن يصمت حيال ما قال عنه بالحرف الواحد “محاولات جعلي كبش فداء”، مشدّدا كما قال أيضا في مقدمة كتابه “أنا رجل ظل بعيدا عن السيرك الإعلامي، لكنني غير متورط في أي ممارسات غير قانونية. لذا، لا أخشى على الإطلاق من كشف الحقائق”.
عن قضية إطلاق سراح الممرضات البلغاريات في ليبيا يقول تقي الدين إن ما صوِّر على أنه إنجاز إنساني حققته السيدة الفرنسية الأولى آنذاك سيسيليا ساركوزي، كان في الواقع مشروطا بصفقة مالية سرية؛ إذ اشترط العقيد القذافي أن تدفع فرنسا 130 مليون دولار من التعويضات لـ”جمعية الأطفال الليبيين مرضى الإيدز”.
وبعد رفض الطرف الليبي اقتراحا بأن يُقتطع ذلك المبلغ من عمولات الصفقات المستقبلية للشركات الفرنسية في ليبيا، واشتراط القذافي أن يكون الدفع قبل إطلاق الممرضات، يقول تقي الدين إنه اقترح على كلود غيان، الذي رافقه والسيدة الأولى الفرنسية السابقة إلى طرابلس، أن يطلب ساركوزي من صديقه أمير قطر أن يتولى دفع المبلغ المطلوب نيابة عن فرنسا. وبالفعل، اتصل الرئيس الفرنسي بالحاكم القطري في الثانية من فجر 24 تموز 2007، وتعهد القطريون للقذافي بتسديد المقابل المالي، ما مهّد لعودة السيدة الأولى إلى باريس، بعد ساعات، برفقة الممرضات البلغاريات.
ويضيف تقي الدين أنه علم من عبدالله السنوسي، الرجل الثاني في نظام القذافي، أن المبلغ الذي سدّده القطريون لم يكن 130 مليون دولار، كما اشترط القذافي، بل 300 مليون، دون أن يكشف المزيد عن مصير الفائض المقدَّر بـ170 مليون دولار: هل استولى عليه وسطاء ليبيون؟ أم حطّ سرّا في جيوب فرنسية؟
ومع استدعاء ساركوزي إلى التحقيق، يبدو أن الكثير من الفضائح المالية التي ارتبطت به وبفريق عمله في طريقها إلى الافتضاح أمام الإعلام، وفي ذلك بداية لتبرئة سمعة تقي الدين من تهم فبركتها له أسماء كبيرة في عالم السياسة الفرنسية ورأت فيه “كبش فداء” مناسب للتضحية به.