كتبت صحيفة “الراي” الكويتية: لم تعد الانتخابات النيابية في بيروت في السادس من أيار المقبل حدَثاً بحد ذاته رغم أنها الاستحقاق الأهمّ على الإطلاق في «تكوين السلطة». فقانون «الصوت التفضيلي» وتحكيم الآلة الحاسبة في تركيب اللوائح وخضوع التحالفات للعبة الأحجام والمحاكاة المسبقة للاقتراع مقعداً مقعداً، ساهَمَ في بلورةِ «الرسم التشبيهي» لبرلمان 2018 – 2022 وتَوازُناته الأساسية التي يَنتظرُ اكتمالُها نتائجَ معارك انتخابية محدودة ذات رمزيات سياسية، كما هو الحال في بعلبك – الهرمل، أو ما كان يعرف بـ «جمهورية حزب الله»، وفي الشمال المسيحي، الذي يجري تحميل الانتخابات فيه أبعاداً رئاسية وكأنها التصفيات نصف النهائية في السباق الى القصر.
ثمة عناوين تضجّ بها بيروت، وتُضاهي الانتخابات وربما تُنافِسها كالحرب وطبولها، الإفلاس وجرس إنذاره، التسوية ومصيرها، الأحلاف وتَقاطُعاتها، الفساد وأَلغازُه… والأهمّ حكومة ما بعد الانتخابات وألغامُها وانتخابات رئاسة البرلمان وأفخاخُها والمعركة المبكّرة والمفتوحة على رئاسة الجمهورية. فكل تلك القضايا وملفاتها تجعل من صناديق السادس من أيار مجرد «متاريس» في حروب مُقنَّعة، غالباً ما يختلط فيها المحلي بالإقليمي وينخرط في منازلاتها كل ما تَيسّر من أسلحة ومناورات ومكائد وخداع وميكيافيلية، فالمسألة في نهاية المطاف هي مَن يحكم لبنان وبأيّ أجنداتِ في لحظةٍ يتحكم المجهول بمصير المنطقة برمّتها، مصيرٌ الأكثرُ وضوحاً فيه هو الغموض اللامتناهي.
ولم يكن أدلّ على هذا الغموض الذي يحوط لبنان في طريقه إلى «تكوين السلطة» من التقارير المتناقضة عن الحرب التي تجعل منه مسرحاً لتهديدات متبادلة بين اسرائيل وإيران. تقارير توحي وكأن الحرب ستحدث غداً وأخرى تجزم بأنها لن تحدث أبداً. كبريات الصحف الغربية تتوقّع حرباً مدمّرة لا محالة، وخبراء يستبعدونها لعجْز اسرائيل عن شنّها. تَزايُد شبح اندلاعها مع تحوّل إدارة دونالد ترامب «مجلساً حربياً»، وتلاشي احتمالاتها مع كلام الرئيس الاميركي عن انسحاب قريب جداً من سورية. إقرارٌ ببقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، كما أوحى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورهانٌ قديمٌ أثبت استحالته على إخراج الأسد من حظيرة طهران وبالاتكاء هذه المرّة على الروس.
ورغم أنه يحلو للبعض التعاطي مع لبنان في حمأة الصراع اللاهب من حوله كـ «قوةٍ عظمى»، كان صادماً الكلامُ عن انه على طريقٍ سريعة نحو الانهيار عبر «الإفلاس المالي». كلامٌ قاله رئيس الجمهورية ميشال عون وأوحى به رئيس الحكومة سعد الحريري وروّج له الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في اطار إعلانه عن «مقاومة اقتصادية – مالية» لمكافحة الفساد، في خطوةٍ أُخضعت لتأويلات كثيرة حول توقيتها ومغزاها وقُطَبِها المخفية، خصوصاً أنها جاءت وسط مؤتمرات دعم دولية للبنان (روما، باريس وبروكسيل) واشتداد العقوبات المالية الأميركية على الحزب لـ «خنْقه»، وحراكٍ سياسي داخلي يرافق التحالفات الانتخابية… فما الذي قَصَده نصرالله على هذا المستوى؟
ثمة إجماع على وجود غاية مكتومة من قراءة نصرالله نصاً مكتوباً يعلن فيه انه سيصبح شريكاً في الملف الاقتصادي – المالي، المتروك للآخرين، وتأسيسه «وحدة خاصة» للحرب على الفساد وبإمرته. غير أن القراءات لهذه «النقلة» تدرّجت على النحو الآتي:
• اعتبار الخطوة مجرّد «دعاية انتخابية» لامتصاص النقمة الشعبية على أداء «حزب الله» ونوابه في بعلبك – الهرمل، المنطقة التي تعاني حرماناً موصوفاً وهي التي يتمّ التعاطي معها على أنها مجرد ثكنة للمستودعات والمُقاتلين، في الوقت الذي تجعلها الانتخابات النيابية واحدة من ساحات الاختبار الأكثر حساسية بالنسبة الى الحزب وخصومه.
• الاعتقاد بأن «حزب الله» قرر الدخول الى الملف الاقتصادي – المالي للتحصن فيه بمواجهة الضغوط الأميركية التي يراد منها إقناع الأوروبيين بإنهاء التمييز بين جناحيْ الحزب، العسكري والسياسي، بالتوازي مع التوجهات الاوروبية المتزايدة لفرض عقوبات على البرنامج الباليستي الإيراني. وبهذا المعنى فإن الحزب يريد تقديم نفسه رقماً صعباً في الملف الاقتصادي، بعد العسكري، لا يمكن للغرب تَجاوُزه.
• الايحاء أن في الاعلان عن الانخراط في مقاومة الفساد مماشاة لحليفه حزب رئيس الجمهورية، أي «التيار الوطني الحر» برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل الذي كان خرج عن صمته حين أخذ على «حزب الله» دوره السلبي في بناء الدولة بإشاحة نظره عن الفساد الذي بات يهدّد بانهيار الهيكل، وهو الأمر الذي ينطوي على اتهام لم يعد ضمنياً لرئيس البرلمان نبيه بري، شريك الحزب في الثنائية الشيعية.
هذه المسألة المرتبطة بعلاقة «حزب الله» بحليفيْه، الشيعي (بري) والمسيحي (باسيل) هي الأكثر إثارة الآن مع بدء العدّ العكسي للانتخابات النيابية وما يليها من إستحقاقات مفصلية أوّلها الحكومة المقبلة وآخرها الانتخابات الرئاسية وبينهما الرئاسة المقبلة للبرلمان.
وتَبرز في مقاربة العلاقة بين الحزب وباسيل وتالياً رئيس الجمهورية أكثر من قراءة لعلّ أهمها:
• الانطباع عن أن تلك العلاقة ليست على ما يرام وسط أزمة ثقة متبادلة وتَصاعُدية، ظاهُرها خوضهما الانتخابات بلوائح متقابلة في غالبية الدوائر وبتحالفات متناقضة، أما باطنُها فيتمثل في «نقزة» الحزب من أداء باسيل ومواقفه، بدءاً من قوله مرةً ان لا موقف ايديولوجياً من اسرائيل وحرْصه على الابتعاد عن الحزب في الانتخابات، ربما كرسالة للأقربين والأبعدين (دول الخليج والغرب)، والتغييرات التي يُحْدِثها في مؤسساتٍ حساسة، وثنائيتُه العصية مع رئيس الحكومة سعد الحريري وتياره وحربه الشعواء على حليف الحزب اي الرئيس بري، في الوقت الذي يجاهر رئيس «التيار الحر»، الذي وصف رئيس البرلمان بـ «البلطجي»، بمسؤولية الحزب عن عرقلة مشروع بناء الدولة في زمن «الرئيس القوي» عبر تغطيته فساد حليفه الشيعي.
• الاعتقاد بأن «حزب الله» الذي يطمح الى الإتيان بكتلة نيابية وازنة بالتكافل والتضامن مع حلفائه، يعتزم الانتقال من شاهِد إلى مُشارِك في صنْع القرار الاقتصادي – المالي، وهو قرّر فعلياً الانخراط في معركة مكافحة الفساد بالتفاهم مع حليفه، «التيار الوطني الحر» شريكه في التسوية السياسية التي جاءت بالعماد عون رئيساً للجمهورية والتي تمت أساساً من خلف ظهر الرئيس بري الذي قاد معارضة ضدّها، وهي معارضة متواصلة لقطْع الطريق على تفاهمات ضمنية بوصول باسيل للرئاسة، وتالياً فإن تلك التسوية بين «ترويكا» باسيل و«حزب الله» والحريري باقية وتتمدّد الى ما بعد الانتخابات.
ورغم مصادفة إعلان نصرالله عزمه على النزول الى الميدان لمكافحة الفساد ومقاومة الانهيار مع كلام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن ان باسيل والحريري يعملان على محاصرة بري، فكان من اللافت ان رئيس «التيار الوطني الحر» وفي هجومٍ علني على «الميليشيات الإدارية»، التي يستخدمها كاسم حرَكي للتصويب على الرئيس بري وحركته (حركة أمل)، وَضَع ما أعلنه نصرالله في شأن مكافحة الفساد وكأنه استجابة لإلحاح باسيل وتوجهاته.
غير ان هذا الاستنتاج يصطدم بحرْص «حزب الله» على وحدة «البيت الشيعي» المحمية بتحالفٍ فوق استراتيجي بينه وبين حركة «أمل»، يشكل حجر الزاوية في حماية ظهر الحزب وتَوسُّع أدواره، الأمر الذي يطرح علامات استفهام حول مدى قدرة الحزب على المجازفة بالانتقال من النظري الى العملي في الحرب على الفساد، حسب الأجندة التي يروّج لها باسيل، رغم أن الحزب فعلها سابقاً حين أدار الظهر لبري في حياكة التسوية الرئاسية.
علاماتُ استفهامٍ في هذا النوع تصبح أكثر وطأة مع المؤشرات المبكّرة لمعركتين بعد الانتخابات: تشكيل حكومة جديدة، ثمة مَن يقول ان عهد الرئيس عون يريدها موالاة لا معارضة فيها، ورئاسة البرلمان التي لن تؤول بـ «تلقائية» الى الرئيس بري، كما جرتْ العادة على مدى ربع قرن.
وثمة مَن يهمس عن انزعاج سوري من الرئيس بري، الذي لم يزر دمشق على مدى سبعة أعوام ولم يهاتف الأسد وتَجنّب مواقف واضحة من أزمتها، وأَصرّ على ترْك مصير هنيبعل القذافي في يد القضاء اللبناني، في وقت كثر الكلام عن «ودائع سورية» عائدة الى الميدان عبر الانتخابات النيابية، فهل هذا مجرّد سيناريو من تخيّلات أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟