كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الأخبار”:
تحت وقع التهويل من احتمال إفلاس الدولة اللبنانية، تعرض الحكومة أمام المشاركين في مؤتمر «باريس 4» سلة من «الالتزامات» لضمان تمويل أكثر من 250 مشروعاً استثمارياً، بقيمة 17.3 مليار دولار، تنوي تنفيذ 40% منها بالشراكة مع القطاع الخاصّ، ونحو 60% منها عبر القروض الميسّرة، خلال السنوات الثماني المقبلة. فهل الشراكة مناسبة للبنان؟ وما هي مخاطرها؟
تشارك مجموعة من الدول الأوروبية (فرنسا وألمانيا في طليعتها)، فضلاً عن دول خليجية كالسعودية والإمارات وقطر والكويت، في مؤتمر باريس 4 (سيدر)، بحسب ما يفيد نديم المنلا، مستشار رئيس الحكومة والمعدّ الرئيسي للخطّة الاستثماريّة، مشيراً إلى أن «طموحنا هو الحصول على منح بقيمة مليار دولار أميركي، أكثر من نصفها يُتوقع أن تؤمّنه الدول الخليجية المُشاركة، وذلك لتمويل صندوق برنامج GCFF الخاص بالبنك الدولي، الذي سيسمح بحصولنا على قروض ميسّرة بفوائد تراوح بين 1 و1.5%، وبقيمة تصل إلى أربعة أضعاف المنح التي نجمعها، (أي 4 مليارات دولار قروض لكل مليار دولار من المنح)، فضلاً عن توقعاتنا بأن يموّل القطاع الخاص مشاريع تصل قيمتها إلى 3.5 مليارات دولار، من أصل 19 مشروعاً بقيمة 5.9 مليارات دولار معروضة أمام المستثمرين المحليين والأجانب، وتمثل الدفعة الأولى من المشاريع المُختارة لتنفيذها بالشراكة مع القطاع الخاص والمقدّرة بـ7 مليارات دولار».
مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص
إذاً، لا تتخطّى توقّعات التمويل عشية انعقاد المؤتمر، قيمة الـ 4 مليارات دولار للقروض الميسّرة، و3.5 مليارات دولار من القطاع الخاص، وفق المنلا، وهو ما يطرح احتمال التخلّي عن مشاريع بقيمة 10 مليارات دولار نهائياً، وهي ضرورية لتطوير البنية التحتية المتهالكة، أو التركيز على فرضية «ضرورة تنفيذها» لتسهيل عملية تجييرها إلى القطاع الخاص، وبالتالي زيادة حصّته من هذه المشاريع!
ماهية الشراكة
قد يثير خيار الاستدانة ردود فعل سلبية أكثر من تجيير خدمات وأصول عامّة إلى القطاع الخاص، لكون تسويق هذا النوع من العقود في لبنان، غالباً ما يستند إلى ركائز تبتعد عن تعريفها، يعدّدها الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة والشراكة، زياد الحايك، كالآتي: «عدم وجود موارد ماليّة لدى الدولة لتمويل المشاريع، فشل الإدارة العامّة في تشغيل المرافق وتقديم الخدمات في مقابل نجاح القطاع الخاص، الحاجة لتطوير البنى التحتيّة وتكبير حجم الاقتصاد، فضلاً عن اللحاق بالموجة القائمة عالمياً والتي تعتمد على القطاع الخاص».
فما هي الشراكة فعلياً؟ وما هي المخاطر المترتبة عنها؟ تعدُّ الشراكة بين القطاعين العام والخاص شكلاً من أشكال الخصخصة، ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، وباتت الوصفة الجاهزة التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول الضعيفة تحت حجة تطوير بنيتها التحتية.
يعرّفها البنك الدولي بأنها «عقود تلجأ إليها الدولة (غالباً الدول الصاعدة أو النامية) في سبيل تطوير بنيتها التحتية ورفع معدلات النمو». إلا أن هذا التعريف لا يعكس سوى جانب واحد من الواقع. فعلى موقعه المخصص للشراكة، يعترف البنك الدولي بأن هذه العقود «قد تنطوي على احتكارات، نتيجة إلزام الدولة بتقديم ضمانات لصاحب الامتياز، لحماية مصالحه من الامتيازات الأخرى التي قد تمنحها للآخرين، والحفاظ على عائدات مربحة له». فضلاً عن «ترتيبها أعباءً إضافية، كأن تفرض الدولة ضرائب على المقيمين أو تستحصل على قروض، لمصلحة المستثمر، عندما لا تؤمن الإيرادات المحصلة من المستخدمين مجمل تكاليفه وأرباحه».
وأيضاً، يعترف «صندوق النقد الدولي»، في ورقة حول «الأبعاد الاقتصادية للشراكات»، بأنها «قد تكون أكثر تكلفة من العقود التقليدية التي تنشئ فيها الهيئات العامة أصول البنية التحتية أو تتعاقد مع ممول خاص لبنائها، لأن النفقات الإضافية التي تتكبدها الشراكات طويلة، بحيث يصبح العائد المدفوع إلى الشريك الخاص أعلى من سعر الفائدة على الدين الحكومي».
بمعنى أوضح، يشرح الوزير السابق، شربل نحاس، الشراكة بأنها «دَين مخفي، بحيث تتخلى الدولة عن الآلية العادية لإبرام العقود العمومية من خلال وضع دفتر شروط واستدراج عروض والتعاقد مع شركات، في مقابل الاستدانة للدفع للمورد الذي تبرم معه عقداً لفترة طويلة لتقديم خدمات عامة، على أن تقسّط المبالغ المترتبة عليها على مدى سنوات التعاقد. وبالتالي بدل أن تسجّل المبالغ المترتبة عليها في الدين العام، فهي تخفيه، وتدفعه على شكل أقساط سنويّة من الموازنة، وتخفي معه جزءاً من عجزها وقيمة الفائدة المترتبة عليها، أو تعطي للشريك الخاص إمكانية استرداد أمواله وأرباحه عبر جباية ثمنها من المواطن. وفي الحالتين، تكون التكلفة على عاتق المواطن، الذي يدفع عبر الضرائب كلفة الدين والعجز، أو يدفع ثمن الخدمة مباشرة للمستثمر الخاص متضمّنة تكاليفه وأرباحه».
لماذا الشراكة؟
على الرغم من الاحتكارات والأعباء الإضافية المتولّدة عنها والتكلفة النهائية المترتبة على المواطن، إلّا أن الشراكة مطروحة كـ«خيار وحيد» كما يقول المنلا، بسبب «العجز في ميزان المدفوعات الذي يتطلّب استقطاب أموال جديدة بالعملات الأجنبية، في مقابل الاحتفاظ بالعملات الموجودة في المصارف المحلية للقيام بدورها السابق والحالي القائم على دعم سعر صرف العملة. أما الطريقة الوحيدة لجذب الأموال الخارجيّة، فهي عقود الشراكة للاستثمار في البنية التحتية، التي تعطي المستثمر ضمانات باسترداد تكاليفه وتأمين ربحيته، أو إعطائه امتيازات للاستثمار في مشاريع تدرّ عليه عائدات سهلة كالمطارات والأوتوسترادات والمرافئ».
في الواقع، يعاني لبنان عجزاً متنامياً في ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وهذا يعني أن التدفقات المالية بالعملات الأجنبية الداخلة إلى لبنان هي أقل من التدفقات الخارجة منه، ويعود ذلك إلى عجز بنيوي في الاقتصاد اللبناني قائم منذ الأربعينيات، نتيجة تركّز الاقتصاد على الخدمات والسياحة قبل الحرب، ومن ثمّ على المصارف والعقارات والتجارة بعده، من دون أي تفكير بتنمية الزراعة وتطوير الصناعة والقدرات الإنتاجيّة، ما يضع لبنان في دائرة الخضّات الدائمة.
مشاريع البرنامج المعدّة للشراكة!
تتوزّع المشاريع المعروضة أمام الرساميل الخاصة المحلية والأجنبية ضمن الخطة على قطاعات النقل، والطاقة والمياه، والصرف الصحي، ومعالجة النفايات، والاتصالات. وتشمل العقود المقترحة عمليات تصميم وبناء وصيانة وتشغيل: مرافئ سياحية (جونية وصيدا)، مطارات (توسيع مطار بيروت وتأهيل مطار القليعات)، أوتوسترادات (من خلدة إلى نهر إبراهيم)، معامل إنتاج الطاقة (الزهراني وسلعاتا)، محارق نفايات ومنظومات صرف صحي وغيرها… وتقضي هذه العقود بمنح المستثمرين امتيازات، قد تصل مدتها إلى 35 عاماً، وتنطوي على استغلال لموارد عامة وتحصيل رسوم مباشرة وغير مباشرة من مستخدمي الخدمات العامة، مثل جعالة المرور في حالة استخدام الأوتوستراد السريع، أو ثمن السلعة أو الخدمة في حالة الطاقة والمياه والاتصالات.
على سبيل المثال، في حالة الأوتوستراد السريع من خلدة إلى نهر إبراهيم، تقول مصادر في مجلس الإنماء والإعمار إن «قيمة المشروع تبلغ 2.8 مليار دولار، وهي تساوي القيمة المقدّرة لإعادة تأهيل سكة الحديد الساحلية، التي غاب ذكرها عن المشروع، كمقدمة لنسيانها». ما الذي يعنيه ذلك؟ بحسب خبير في هذا النوع من العقود، فإن المستثمر سيضع برنامجاً لاسترداد التكاليف في غضون 5 سنوات على الأكثر، أي إن الدولة ستضمن له عائدات بما لا يقل عن 600 مليون دولار في السنة، أو أكثر من مليون و650 ألف دولار في اليوم سيسددها مستعملو الأوتوستراد السريع! وبحسب هذا الخبير، فإن ذلك غير قابل للتحق إلا عبر طريقتين: إمّا أن تعمل الحكومة على إجبار الناس على استخدام هذا الأوتوستراد بجعالات مرتفعة، أي إنها تتعهد للمستثمر بعدم إتاحة أي خيار آخر للتنقل إلا أوتوستراده، أو التعهد بتسديد مبالغ إضافية من الموازنة فوق المبالغ التي سيجبيها المستثمر من مستعملي الأوتوستراد.
هل هذا هو الخيار الوحيد؟
في الواقع، لا توجد أي دراسة معدّة حول الجدوى الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن هذه المشاريع عند تطبيق الشراكة، على عكس ما «تدّعيه الحكومة بأن المصارف ساهمت بإعداد دراسات لها» بحسب رئيس قسم البحوث في «بنك بيبلوس» نسيب غبريل، الذي تحدّث في ندوة عقدت أخيراً في بيروت. فيما أشار الخبير الاقتصادي في البنك الدولي وسام حركة، إلى أن «الحكومة عرضت لائحة المشاريع في تشرين الأول الماضي لتقييمها، إلّا أننا لم نجرِ أي دراسة لجدوى هذه المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وكلّ ما أُنجِز هو اجتماعات عدّة مع الحكومة لتوضيح بعض الأفكار غير المفهومة، وتقديم توصيات لكيفية التنفيذ الأفضل، لكن دون تقييم استراتيجية هذه المشاريع والقطاعات».
إذاً، تتوجّه الحكومة إلى باريس لعرض خطّتها مع ما يترتب عنها من ديون إضافيّة وتجيير أصول عامة إلى القطاع الخاص دون أي دراسة جدّية، بحيث يشكّل المطروح استمراريّة للنموذج الاقتصادي نفسه، ومن دون إجراء أي إصلاحات بنيوية، وهي إصلاحات تختلف بطبيعتها عن تلك التي تطرحها الحكومة في رؤيتها التي ستعرض في المؤتمر والقائمة على «تجديد التعهّد بعدم التخلف عن تسديد فوائد الديون مهما كانت الظروف».