كتبت صحيفة “الراي” الكويتية: بدتْ بيروت وكأنها تنفّستْ الصعداء بعيْد ضربةِ الـ 50 دقيقة التي شنّتْها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضدّ أهداف منتقاة في سورية. فالعاصمة اللبنانية التي لطالما نامتْ في الليالي الماضية في أحضان الكوابيس على وقع سيناريواتٍ عن حربٍ كبرى تحوم في جوارها وقد لا تنجو منها، أَدركتْ مع طلوع الشمس يوم أمس أن «القطوع» مرّ بأقلّ أضرار، وسريعاً طوتْ الصفحة لتدير محرّكات «حروبها» السياسية، وعلى نطاقٍ واسع في ملاقاة صناديق الاقتراع بعد ثلاثة أسابيع من الآن.
فبيروت التي وجدتْ نفسها فجأة ومرّة جديدة في عين العاصفة مع التلويح الغربي بـ «ضربةٍ غامضة» للنظام في سورية المتّهَم باستخدام الكيماوي في دوما، كانت «على أعصابها» على مدار الأيام الأخيرة وسط الخشية من استدراج لبنان الى حربٍ مدمّرة مع خطر انفلات المواجهة لا سيما الإيرانية – الاسرائيلية و«الشظايا المبكّرة» التي بدأتْ تلوح في الأفق وتصيب الالتزام الهشّ بسياسة «النأي بالنفس» كقاعدة «سحريّة» للتسوية السياسية في البلاد.
ومع الضربة المحدَّدة والمدوْزنة و«النظيفة»، ساد انطباعٌ في بيروت بأنه «قضي الأمر»، فما حدث أقلّ من حرب وأكثر من رسالة في تطورٍ أنهى حالَ الغموض التي افترستْها سيناريواتٌ متناقضة راوحتْ بين مَن روّج لـ «حربٍ عالمية ثالثة» تَقرع أبواب المنطقة وبين مَن اعتقد أن لا شيء سيحدث على قاعدة أن الغرب أعجز عن استفزاز روسيا ومعها «محور الممانعة»، فإذا بالضربة وبنك أهدافها أشبه بـ «تسويةٍ» على طريقة «لا يموت الديب ولا يفنى الغم».
وانخرطت بيروت، التي غالباً ما تنقسم حول كل شيء وأي شيء، في قراءاتٍ أولية لما حدَث في سورية وبدتْ أسيرةَ منطقيْن متعارضيْن برزا على النحو الآتي:
* منطقٌ رأى أن التحالف الثلاثي الغربي قال في رسالته الصاوخية ما أراد إبلاغه الى الروس الذين نأوا عن الضربة، ربما بتفاهُم مضمر مع الولايات المتحدة، وللإيرانيين الذين تجرّعوا الكأس رغم التهديد والوعيد.
فواشنطن و«أخواتها» نجحت في فرض قواعد جديدة في سورية كـ «لاعب» حاضر بديبلوماسيته وأساطيله، وفي إفهام روسيا بأن الاعتراف بدورها لا يعني إطلاق يدها في رسْم مستقبل سورية، الذي لا بد من العودة به الى مسار جنيف.
* منطقٌ يعتقد أن الضربة التي لا تميت تقوي. فاضطرار الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا الى خفْض مستوى الضربة وأهدافها نزولاً تحت وطأة التلويح الروسي – الايراني بالذهاب إلى مواجهة شاملة، يعكس عدم القدرة على قلب موازين القوى في سورية، ويفسح أمام النظام وحلفائه المضي في خريطة الطريق لإحكام السيطرة على مزيد من المناطق «المتمرّدة»، فالهدف التالي سيكون ادلب.
وفي منطقةٍ وسط بين المنطقيْن، تنشط التحريات لمعرفة ما حمله المسار الديبلوماسي الذي فُتح على مصرعيه بعدما لوّح الغرب بالخيار العسكري للرد على «كيماوي الأسد» في دوما وقبل الضربة المخفوضة الأهداف، ولا سيما حين عادت الحرارة وبقوة الى حركة الهواتف الحمر بين الكرملين والبيت الابيض والاليزيه، وتالياً فإن الأسئلة تدور الآن حول المساومات التي جرتْ وما أفضتْ اليه من نتائج مكتومة ترتبط بالمرحلة المقبلة في سورية.
ولم يكد غبار الضربة ان ينجلي حتى كانت تداعياتها السياسية تطلّ برأسها على الساحة اللبنانية التي «ضاع» فيها مبدأ «النأي بالنفس» تحت وطأة ما يشبه «دولة الألسن المتعدّدة» التي إما تحدّث كل منها بلغة وإما لجأ بعضها الى… السكوت.
فبعدما كان رئيس الحكومة سعد الحريري أعلن اعتماده «النأي بالنفس» بإزاء ما كان يُحكى عن ضربة يتم التحضير لها للنظام في سورية، تَرجم ومعه خصومُ فريق «8 آذار» الآخرين هذا الأمر بالـ «لا تعليق» على التطور العسكري في مقابل اندفاعة «حزب الله» وحلفائه تنديداً بـ «العدوان الثلاثي الغادر».
أما في المقلب الرسمي، فحاول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي توجّه الى السعودية لترؤس وفد لبنان الى القمة العربية يرافقه رئيس الحكومة ووفد وزاري، صوغ موقفٍ بدا فيه وكأنه يستعمل «ميزان الجوهرجي» (أي بائع الذهب) إزاء ملفٍ حساسٍ اذ أعلن ان «ما حصل فجراً في سورية لا يساهم في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، بل يعوق كل المحاولات الجارية لإنهاء معاناة الشعب السوري، إضافة الى انه قد يضع المنطقة في وضع مأزوم يصعب معه إمكان الحوار الذي بات حاجة ضرورية لوقف التدهور وإعادة الاستقرار والحدّ من التدخلات الخارجية التي زادت الأزمة تعقيداً».
وأكد عون «ان لبنان الذي يرفض ان تُستهدف اي دولة عربية باعتداءات خارجية بمعزل عن الأسباب التي سيقت لحصولها، يرى في التطورات الأخيرة جنوحاً الى مزيد من تورط الدول الكبرى في الأزمة السورية، مع ما يترك ذلك من تداعيات».
ورغم «حياكة» عون بدقة لموقفه الذي بدا متوازناً، كان بارزاً الكلام الذي «لم يترك أي التباس» في إدانة الضربة على سورية والذي أطلقه وزير الخارجية جبران باسيل (صهر عون ويرافقه الى القمة العربية) اذ دان «القصف الصاروخي والغارات الجوية اللذين تعرضت لهما الجمهورية العربية السورية، ويمثلان اعتداءً صارخاً على سيادة دولة عربية شقيقة وانتهاكاً للمواثيق والأعراف الدولية»، معتبراً ان «الحري كان إجراء تحقيق دولي شفاف وموضوعي من الوكالة الدولية لحظر الأسلحة الكيماوية، ثم استصدار قرار أممي شرعي عن المؤسسات الدولية قبل تنفيذ أي ضربة عسكرية».
ولم يكن أقلّ تعبيراً إعلان وزير الدفاع يعقوب الصراف (هو من حصة عون) ان «العدوان الثلاثي على سورية انتهاك صارخ للقانون الدولي»، وأيضاً قول وزير العدل سليم جريصاتي (من حصة عون) في تغريدة على «تويتر»: «عِبر التاريخ يستعيدها الحاضر: العدوان الثلاثي كرّس زعامة ناصر على الأمة العربية، وقسم اليمن ورسخ حكم بشار».
وفي موازاة ذلك، كان رئيس البرلمان نبيه بري يعلّق «على العدوان الثلاثي الذي استهدف سورية» قائلاً: «رحم الله الجواهري عندما قال: دمشق صبراً على البلوى… وعند أعوادك الخضراء بهجتها كالسنديانة مهما ساقطت ورقا»، وذلك بعدما كانت حركة «امل» التي يتزعمها اعلنت «ان العدوان يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي واعتداء صارخاً على الدولة السورية العضو المؤسسس للأمم المتحدة».
أما «حزب الله»، أكثر المعنيين بما يجري في الميدان السوري، فشدّد في بيان له على انه «يدين بأقصى شدة العدوان الثلاثي الغادر على سورية الشقيقة، ويعتبره انتهاكا صارخا للسيادة السورية وكرامة الشعب السوري وسائر شعوب المنطقة، وهو استكمال واضح للعدوان الصهيوني الأخير على سورية». وإذ لفت الى «ان الذرائع والمبررات التي استند اليها أهل العدوان الثلاثي الجديد، هي ذرائع واهية وتستند الى مسرحيات هزلية فاشلة»، أكد «وقوفنا الصريح والثابت الى جانب الشعب السوري وقيادته وشعبه الباسل ونشيد بتصدي قوات الدفاع الجوي في الجيش العربي السوري للعدوان، ونؤكد ان الحرب التي تخوضها أميركا ضد سورية وضد شعوب المنطقة وحركات المقاومة والتحرر لن تحقق أهدافها بل إن الأمة ستخرج أكثر قوة».
وفيما كانت بيروت «تحت تأثير» الضربة وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، بدا أنّ «حمى» الانتخابات النيابية المقررة في 6 مايو بدأت تتصاعد بقوّة وسط تزايُد الإشكالات، وبعضها مسلّح، في عدد من المناطق وكان آخرها ليل الجمعة في محلة الطريق الجديدة في بيروت على خلفية تعليق صور لمرشّحين وصولاً الى تعرُّض أحد المرشّحين عن المقعد الدرزي في دائرة بيروت الثانية (رجا الزهيري) لمحاصرة في منزل زميله في لائحة «كرامة بيروت» الدكتور محمّد خير القاضي بعد إشكال بين مرافقيه وانصار تيّار «المستقبل» الذي يقوده الرئيس الحريري.
ولم يحجب هذا الإشكال الأنظار عن الجولة البالغة الدلالات التي قام بها الحريري جنوباً وتحديداً في حاصبيا والعرقوب ومرجعيون لاستنهاض قواعده لدعم مرشّحِ «المستقبل» عماد الخطيب والتي توّجها بكلام لافت أكد فيه أن «استرداد مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مسؤولية الدولة، وكل اللبنانيين صف واحد خلف الجيش اللبناني في حماية الحدود»، ملاحظاً «ان البعض يمكن أن يرى في زيارتي اليوم نوعاً من تخطي الخطوط الحمر، أو من التحدي. وأنا لا أعترف بأي خط أحمر، أمام أي مواطن لبناني يريد أن يزور الجنوب أو أي منطقة في لبنان. إضافة إلى ذلك، أنا لا آتي إلى الجنوب برسالة تحد لأحد».