كتب جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
ألف موظّف في لبنان يقبضون أجورهم بالليرة اللبنانية. هذا الواقع يعكس أهمّية الحفاظ على الثبات النقدي وإعفاء الليرة اللبنانية من البازار الإنتخابي الذي تُغذيه المطامع بالمناصب والإنتهازية. من هنا نرى أن التهجّم على السياسة النقدية خيانة في حق الوطن والمواطن.
عندما نرى الكمّ من الموظفين الذين يتظاهرون من أجل الحصول على بضعة مئات من آلاف الليرات شهريًا زيادة على أجورهم الشهرية، نرى أهمية الحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية. نعم أن كل كيان الدولة اللبنانية لا قيمة له إذا لم يكن المواطن اللبناني يعيش في أمان إجتماعي ومالي.
المواطن اللبناني ليس إختصاصيًا في الإقتصاد والنقد، وعندما تخرج دراسة من هنا أو تصريح لـ «مسؤول» من هناك لإنتقاد السياسة النقدية وثبات سعر صرف الليرة، يُصاب المواطن بالذعر وأول فكرة تخطر على باله هي تحويل مُدّخراته إلى الدولار الأميركي.
إن تحويل كمّ كبير من الأموال من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي له تأثير سلبي على قيمة الليرة اللبنانية (قانون الأعداد الكبيرة). وبالتالي يخلق المواطن أزمة نقدية من لا شيء آللهم إلا تصريح لشخص غير مسؤول أثار من خلاله الذعر بين المواطنين. وكل ذلك هدفه البروز في هذا البازار الإنتخابي والذي يدلّ على إفلاس هذا الشخص.
الليرة اللبنانية ثابتة ولا شيء سيُغيّر هذه المعادلة، وسياسة الثبات النقدي باقية إلى حين محو عجز الخزينة. هذا الأمر هو أمرٌ محتوم استنادا إلى كلام حاكم مصرف لبنان وإلى التحليل العلمي أدناه.
سعر صرف العملة يعكس قيمة الثروة التي يمتلكها الفرد أو المؤسسة أو البلد صاحب العملة. هذه الثروة هي نتاج النشاط الإقتصادي وتفرض إلزامية الحفاظ على قيمتها وبالتالي الحفاظ على سعر صرفها، إذ من غير المعقول أن تفقد ثروة الفرد قيمتها ما بين ليلة وضحاها. هذه الإلزامية نابعة من مبدأ أن فقدان قيمة الثروة المُمتلكة تعني فقدان قيمة العمل والتي تُعتبر من الثوابت في الإقتصادات الحديثة.
أيضًا إن فقدان قيمة العملّة يمنع من التخطيط للمُستقبل ويضرب المستوى الإجتماعي والمعيشي للفرد ويحرمه من كفاية حاجاته المنصوص عليها في هرم أبراهام ماسلو خصوصًا حاجاته الفسيولوجية.
على صعيد أخر، يأتي فقدان قيمة العملة ليمنع الإستثمارات التي تُعتبر أساس النمو الإقتصادي الوحيد القادر على خلق وظائف. وبالتالي هناك أهمّية مُطلقة للحفاظ على الثبات النقدي بشقّيه: سعر صرف العملة وسعر الفائدة.
هذا الأمر يتبعه مصرف لبنان على أساس خلق عملة ذات مصداقية يُمكن إستخدامها في الإقتصاد كأحدى الأصول الآمنة. وما الودائع بالليرة اللبنانية إلا تعبير لثقة المواطن والمُستثمر بالليرة اللبنانية.
العجز في الميزان التجاري والناتج عن ضعف الماكينة الإقتصادية (15 مليار دولار أميركي) يعني أن كل سنّة هناك 15 مليار دولار أميركي من العملات الأجنبية تخرج من لبنان. هذه الأموال يتمّ تحويلها من قبل التجّار من العمّلة الوطنية إلى العملة الأجنبية وبالتالي هناك فائض في عرض العملة الوطنية مما يضغط على قيمتها.
دور مصرف لبنان هو الحفاظ على قيمة الليرة، وللقيام بذلك يعمد إلى رفع قيمة الأموال بالعمّلة الصعبة التي تدّخل إلى لبنان بهدف توازن ميزان المدّفوعات الذي يُسجّل عجّزًا مع كل تسجيل عجز في الميزان التجاري.
جذب رؤوس الأموال يحتاج إلى عناصر عديدة منها : سعر الفائدة، ثقة في القطاع المصرفي، مناخ أعمال جاذب، إقتصاد واعد، قوانين عصرية، غياب الفساد… من هذه اللائحة الطويلة لا يستطيع مصرف لبنان إلا التأثير على العاملين الأولين أي سعر الفائدة والثقة بالقطاع المصرفي.
نجحت سياسة مصرف لبنان في جذب رؤوس الأموال عبر «دوزنة» هذين العاملين وجعلت من لبنان مركزا ماليا ذي أهمّية عالمية. كما إستطاعت هذه السياسة كسر عجز ميزان المدّفوعات وبالتالي الحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية من خلال إستقطاب العمّلة الصعبة وتكبير حجم إحتياطي مصرف لبنان من هذه العمّلة (45 مليار دولار أميركي حاليًا + 11 مليار د.أ إحتياط الذهب + 12 مليار د.أ أصول المصارف التجارية في الخارج).
هذا النجاح أثبتّته الأحداث التي عصفتّ بلبنان على مر السنين من إغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى إستقالة الرئيس سعد الحريري مرورًا بعدّوان تمّوز السافر، أحداث 7 أيّار 2008، إندلاع الأزمة السورية في العام 2011، موجة التفجيرات في العام 2013، والفراغ الرئاسي من العام 2014 إلى العام 2016. وبدون أدّنى شكّ تبقى تداعيات إستقالة الرئيس سعد الحريري الأقسى ماليًا، وعلى الرغم من ذلك حافظت الليرة اللبنانية على قيمتها وعلى سعر الفائدة.
إن مصلحة المواطن اللبناني هي فوق كل إعتبار ولا يُمكن تبرير أي تصريح لأي سياسي كان، يؤدّي إلى ضرب الثبات النقدي الذي يحمي المواطن اللبناني.
إن إستخدام البعض للمنابر للتهجّم على السياسة النقدية هو بمثابة خيانة عظمى للوطن والمواطن وهي أخطر من الدواعش الذين تمّ دحرهم في فجر الجرود. لذا إعفوا الشعب اللبناني من مهزلاتكم ومسرحياتكم وأتركوا السياسة النقدية في حالها لأنها في أيدٍ أمينة.