تشكّك بعض المؤسسات المالية العالمية بقدرة لبنان على تنفيذ الإصلاحات التي التزم بها في مؤتمر «باريس 4» انطلاقاً من كون هذا المؤتمر هو الرابع من نوعه، الذي يقدّمه المجتمع الدولي للبنان من دون تنفيذ أي إصلاح. «ميريل لينش» قلقة على استمرار التدفقات الخارجية، فيما «موديز» تتعامل مع نتائج المؤتمر بـ«إيجابية حذرة».
هل يُصلح مؤتمر «باريس 4» ما أفسدته عقود من الاقتصاد المبني على جذب التدفقات النقدية من الخارج؟ هل الإنفاق الاستثماري كاف لتفادي أزمة شحّ التدفقات من الخارج؟ هل تخلق نتائج هذا المؤتمر نموّاً اقتصادياً؟ هل الشراكة مع القطاع الخاص تحلّ المشكلة؟ هل يعدّ مؤتمر «باريس 4» بشقّي الاستدانة لتمويل استثمارات في البنية التحتية، والتزام لبنان بإصلاحات مالية، علاجاً متفقاً عليه بين مكوّنات الأطراف السياسية المحليّة؟ ما هي هذه الإصلاحات؟…
ليست هذه كل الأسئلة التي يجري تداولها حول نتائج المؤتمر، بل جزء يسير منها. هي أسئلة لا إجابات واضحة عنها، رغم «الفذلكة» التي قدّمها لبنان في ورقته أمام الدول المانحة. فقد ادّعت هذه الورقة أن المشاريع المطروحة للتمويل في البرنامج الاستثماري تحرّك النموّ وتخلق فرص العمل، وأن الإصلاحات المالية التي أعلن لبنان التزامه بها لها مفاعيل إيجابية على مسار الدين العام في المدى المتوسط. هذه الورقة أمنت للبنان وعوداً بإقراضه 10.8 مليارات دولار، إلا أنها لم تؤمن له إجماعاً من المؤسسات المالية العالمية على جدواها أو القدرة على تنفيذها.
مؤسسة «بنك أوف أميركا ــ ميريل لينش» تأتي في طليعة هذه المؤسسات، على عكس «موديز» التي امتدحت المؤتمر بتقرير فيه الكثير من الحذر الإيجابي. قراءة هذه المؤسسات للمؤتمر ونتائجه هي بمثابة نقد ينطلق من عدم الرغبة في تغيير النموذج الحالي للاقتصاد اللبناني. إنه نقد من داخل النموذج.
عنوان تقرير «ميريل لينش» معبّر: «لبنان: مؤتمر سيدر ـــ سحر للمرة الرابعة؟». اعتبرت مؤسسة «ميريل لينش» أن هذا المؤتمر هو الرابع من نوعه الذي يُعقد في باريس «لإفساح المجال أمام السلطات اللبنانية لمواكبة تحديات النمو والدين». لا تشير المؤسسة إلى وجود سحر، بل تقول: «يُؤمل أن يكون المؤتمر فرصة لمواكبة هذه التحديات من خلال تركيبة استثمارات طويلة الأمد مموّلة بقروض ميسرة خارجية وشراكة مع القطاع الخاص، وبرنامج إصلاحات مالية متوسط الأمد».
رغم ذلك، ترى المؤسسة أن «المؤتمر ينطوي على دعم دولي واسع لرئيس الحكومة سعد الحريري في مواجهة الانتخابات النيابية في أيار». ولا تقف عند هذه النقطة، بل تشير إلى أن «عدم وجود أجندة إصلاحات مالية ملموسة في الوقت الحالي يعكس جزئياً التحديات السياسية للإصلاحات». بمعنى آخر، تشير «ميريل لينش» إلى وجود خلافات سياسية محلية حول الإصلاحات التي التزم بها لبنان أمام المانحين.
كلام «ميريل لينش» لا يأتي في سياق نقد مضمون المؤتمر، سواء البرنامج الاستثماري أو الإصلاحات، بل يركّز على قدرة لبنان على تنفيذ هذه الإصلاحات. فهي ترى أن «لا قروض جاهزة للدفع قبل انتهاء التحضيرات للمشاريع خلال 18-24 شهراً»، وبالتالي فإن «الرقابة الدقيقة على قابلية لبنان لتمويل عجزه الخارجي أمر أساسي حالياً».
هذا الكلام يعني أنه خلال فترة تحضير المشاريع التي تتراوح بين سنة ونصف سنة، وسنتين، لن يوفّر المؤتمر أي تدفقات نقدية من الخارج، ما يثير أسئلة عن قدرة لبنان على اجتذاب تدفقات كافية لتمويل هذه الفجوة الزمنية. «ميريل لينش» تعي أن مشكلة لبنان لا تقع في الإصلاحات التمويلية، بل في أن الاقتصاد اللبناني قائم منذ سنوات طويلة على اجتذاب التدفقات من الخارج لتأمين ما يكفي من الدولارات لتمويل ثمن السلع التي يستوردها من الخارج، أي لتمويل عجز الميزان التجاري البالغ 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
لذا، فإن «ميريل لينش» تعتقد أن «الإصلاحات المالية ضرورية لتقليص وقع الاستدانة الإضافية على دينامية الدين، فيما الإصلاحات الهيكلية تعدّ ضرورية لضمان إطلاق المشاريع وتنفيذها ورفع القدرة الاستيعابية (للبنية التحتية)». بكلام آخر، ترى «ميريل لينش» أن أهمية الإصلاحات المالية تكمن في أنها تستوعب جزءاً من الأثر الذي ستتركه استدانة بقيمة 10.8 مليارات دولار تنفق على البنية التحتية.
في هذا المجال، إن المشكلة تكمن في أن «الحكومة لم تقدّم برنامجاً إصلاحياً ملموساً للوقت الحالي. نتوقع أن يكون هذا الأمر ناتجاً من معوقات تقيّد قدرة الحكومة على تحديد وإقرار إصلاحات مفصّلة. وهذا أيضاً يعكس اعتبارات تتعلق بوجود انتخابات نيابية، بالإضافة إلى وجود معارضة سياسية لعدد من الإصلاحات المالية ولضمان تأكيد حصول توافق عليها».
تذهب المؤسسة أبعد من ذلك في تقويم الإصلاحات، مشيرة إلى أن «قيام المانحين بربط عطاءاتهم بإجراء إصلاحات يعكس حقيقة أن الإصلاحات لم تبدأ، رغم إقرارها في مؤتمرات دعم سابقة». كذلك تشير إلى أن «طموحات الحكومة للأهداف المالية قد تكون مثيرة للانقسام السياسي». الانقسام مصدره الإصلاحات نفسها التي يفترض أن تؤدي إلى «تقليص العجز المالي بمعدل نقطة مئوية من الناتج على مدى السنوات الخمس المقبلة»، إذ إن هذه الإصلاحات تتضمن «إعادة فرض الضرائب على استهلاك المشتقات النفطية، ورفع معدل ضريبة القيمة المضافة، ورفع تعرفة الكهرباء».
وبواقعية مجتزأة، ترجّح «ميريل لينش» أن تكون تعرفة الكهرباء «مثيرة للانقسام السياسي، في ظل وجود معارضين لحكومة الحريري يمكنهم الاستفادة من هذا الأمر في الانتخابات النيابية».
وليست مخاطر عدم تنفيذ الإصلاحات هي مصدر الخطر الوحيد من وجهة نظر «ميريل لينش»، بل هناك أيضاً «عمليات السواب التي يتوقع القيام بها بين وزارة المال ومصرف لبنان»، ففي رأي المؤسسة: «يمكن أن تؤثّر على سندات اليوروبوندز وعلى التمويل المحلي». في التفاصيل، تشير «ميريل لينش» إلى أن مصرف لبنان ينوي خفض كلفة الفائدة على الخزينة بواسطة عمليات سواب مع وزارة المال بقيمة تتراوح بين 5 مليارات دولار و6 مليارات (العمليات تتضمن استبدال دين بالليرة بدين بالدولار بفوائد متدنية). في رأي ميريل لينش، إن «هذه العمليات ستؤدي إلى زيادة محفظة مصرف لبنان من سندات اليوروبوندز إلى 7.5 مليارات دولار، أي ما يوازي 21.7% من مجمل قيمة السندات المصدرة وبما يوازي 14% من الناتج المحلي، ما يتطلب إدارة حذرة. بيع هذه السندات للمصارف المحلية يمكن أن يفرض منحهم حوافز من مصرف لبنان، ويمكن أن يضغط على أسعار السندات في السوق المحلية بشكل بنيوي».
أما في ما خصّ الشراكة مع القطاع الخاص، فإن «ميريل لينش» تشير إلى تقويم البنك الدولي الذي يذكر أنه يمكن جذب استثمارات أجنبية بقيمة 5 مليارات دولار لقطاعات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والنقل، والنفايات الصلبة وسواها، «لكن هذه المشاريع ﺗﺒﺪو كأنها عملية اﺳﺘﻴﺮاد، ﻤﺎ ﻳﺤﺪّ ﻣﻦ ﺗﺪﻓﻘﺎت اﻟﻌﻤﻼت اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ». ما تقوله «ميريل لينش» إن أي استثمار أجنبي سيدخل إلى لبنان لتنفيذ مشاريع في هذه القطاعات، سيكون مضطراً إلى أن يستورد معدات وتجهيزات من الخارج لإطلاق المشروع، أي أن الأموال بالعملات الأجنبية التي سيضعها المستثمرون ستذهب لتمويل شراء سلع من الخارج. تدخل هذه الأموال بطريقة الاستثمار، وتخرج عبر الاستهلاك. لا بل إن المستثمر سيعمل على ردّ قيمة مشروعه بالعملات الأجنبية التي سيحوّلها إلى الخارج، بالإضافة إلى أرباحه. هذا يعني أن النزف بالعملات الأجنبية سيتزايد مع مرور الأيام.
ما لا تذكره «ميريل لينش» ولا «موديز»، أنه من دون تحسين مداخيل الشرائح المتوسطة والفقيرة، ستزيد الأعباء على هذه الأسر ولن يكون لديها نصيب من النموّ المرتقب، بل قد تدفع هي وحدها ثمن الأزمة، فيما الطبقات الأخرى التي كانت مستفيدة طوال سنوات الأزمة ستزداد استفادة.