كتبت راكيل عتيق في صحيفة “الجمهورية”:
أفخاخٌ كثيرة وثغرات متنوّعة، تقع فيها «سلطاتُنا غير المُنفصلة» فتوقع لبنانَ بمحاذير وانعكاسات طويلة الأمد، قد تصل إلى حدِّ المَسّ بالكيان وبالأمن الاجتماعي. وبعد إقرار موازنة مشوبة بمخالفات دستورية وقانونية عدة، أغفل مُدّعو تمثيل المسيحيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً، عن قصد أو من دون دراية، مادة لا مردودَ اقتصادياً مهمّاً لها بمقدار مردوداتٍ تدميرية اجتماعية كيانية توطينية. وكتدبير احترازي، وبعد تلقّيه مراجعة وطعن بقانون الموازنة، اتّخذ المجلس الدستوري أمس قراراً يقضي بتعليق المادة 49 من موازنة 2018، ليبرهن مدى أهمّية دور السلطات القضائية في مراقبة السلطات السياسية ومنع ممارساتها اللادستورية.
بعد أخذِ وردٍّ كلامي وقانوني، أصدر المجلس الدستوري بالاجماع، أمس، القرار الرقم 1/2018، والقاضي بتعليق المادة 49 من قانون الموازنة العامة المطعون فيه الرقم 79 تاريخ 18 نيسان 2018، والمتعلّق بالموازنة العامة والموازنات الملحقة للعام 2018، وإبطاله جزئيّاً أو كليّاً. فهل سيستكمِل المجلس الدستوري هذا القرار بقرارٍ ثانٍ يقضي بإبطال قانون الموازنة بكامله؟
حسمُ الجدل
تجيز المادة 49 من موازنة 2018 منحَ كل عربي أو أجنبي يشتري وحدةً سكنية في لبنان، إقامة دائمة له ولزوجته وأولاده القاصرين في لبنان، على أن لا تقلّ قيمة تلك الوحدة السكنية عن 750 مليون ليرة في مدينة بيروت، و500 مليون ليرة خارج العاصمة.
وأتى قرارُ المجلس الدستوري بعد أن أثارت هذه المادة جدلاً وامتعاضاً لدى شرائح وجهات عدة، ورأى كثيرون أنها تشكّل نافذةً للتوطين، بغض النظر عن مردودها الاقتصادي المحصور بالقطاع العقاري، والذي تفاوتت الآراء الاقتصادية حول جدواه.
ذروةُ الاعتراضات تجلّت على لسان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي رأى أنّ في هذه المادة مقدمةً لمنح الجنسية والتوطين. وفي حين لم يعترض أيُّ نائب من أعضاء تكتل «التغيير والإصلاح» على الموازنة، قرّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعد توقيعه قانون الموازنة توجيه رسالة الى مجلس النواب، يطلب بموجبها منه إعادة النظر في المادة 49. ثم عاد وتريّث في انتظار ما سيصدر عن المجلس الدستوري لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وبذلك، قد يكون المجلس الدستوري بقراره أعاد تأكيدَ سلطته في ظلّ غرق السلطة السياسية في وحول معاركها الانتخابية.
توقيف مفاعيل المادة
على رغم أنّ موازنة 2018 تشوبها مخالفاتٌ للدستور والقانون والمحاسبة العمومية ومبادئ الموازنة، منها المتعلقة بضرورة إجراء قطع حساب عن السنة المالية السابقة لسنة الموازنة، والمهل الدستورية، وسنوية الموازنة، ووحدتها وشموليّتها… أقِرّ قانون الموازنة، واكتفى المجلس الدستوري، في مرحلة أولى، بتعليق المادة 49 من دون التطرّق إلى قانون الموازنة بكامله أو بمواد أخرى منه، مع حفظ بتّ مراجعة الإبطال في الشكل والأساس، وريثما يصدر القرارُ في شأن القانون المطعون فيه.
وفي هذا الإطار، يرى المرجعُ الدستوري الوزير والنائب السابق ادمون رزق أنّ قرار المجلس الدستوري «يعيد الثقة بمرجعية السلطة القضائية في مراقبة هفوات التشريع والإدارة». ويقول لـ«الجمهورية»: «بعد قرار المجلس الدستوري تُعتبر المادة 49 كأنها لم تكن، ويُعمل بقانون موازنة 2018 من دونها فقط، في انتظار البتّ بالطلب الأساسي، وهو إبطال قانون الموازنة جزئياً أو كلياً. وإنّ هذا القرار تدبيرٌ احترازي، لمنع مفاعيل هذه المادة المُلحّة».
ويضيف: «من الطبيعي أن يصدر قرارٌ بتعليق هذه المادة نظراً للالتباسات والإشكالات التي صدرت منها، وكان من المُفترض أن تحصل مبادرة سريعة في هذا الاتّجاه، وقد تمّت أمس. فلقد خلقت هذه المادة بلبلةً واعتراضات، وتجاوزت موضوع الموازنة واتّخذت بُعداً أمنياً اجتماعياً وطنياً».
ويشدّد رزق على أنه «نظراً للظروف التي نعيشها والحساسيات السائدة في البلد، يجب تحاشي كلّ ما يؤدّي الى التباسات، خصوصاً مع وجود هذا الدفق من النزوح واللجوء والضيافة»، لافتاً الى «أنّ هناك سابقة كبيرة في هذا الإطار وهي تملّك الأراضي الفلسطينية، فأصبحت اسرائيل أمراً واقعاً من خلال شراء الأراضي».
وعن إغفال السلطة لهذه المادة، يشير رزق الى «أنّ الوضع السياسي والوطني العام في لبنان مضطرب وملتبس ويشهد كثيراً من المحاذير لأنّ السلطة المتعاقبة منذ ما بعد «إتفاق الطائف» لم تولِ شأنَ السلامة الوطنية الاهتمامَ اللازم، وكان عليها أن تبدأ ببَسط سيادة الدولة وتطبيق الدستور والقوانين»، مؤكّداً «أنّ كلّ ما يحصل هو إفرازات للوضع الراهن المحكوم بتوازنات من خارج مفهوم الدولة».
مصيرُ الموازنة
بعد تعيين مقرّر يدرس المخالفات الدستورية التي وردت في الطعن، وبعد أن يُنجز تقريرَه في مهلة 10 أيام، سيكون على المجلس الدستوري أن يلتئمَ خلال 5 أيام، ليبدأ البحثُ في مضمون التقرير تمهيداً لإصدار قراره النهائي في مهلة 15 يوماً، على أن تجري الآلية القانونية خلال شهر كحدٍّ أقصى يُحتسَب من تاريخ تقديم الطعن.
فهل سيتّخذ المجلسُ الدستوري قراراً يقضي بإبطال قانون الموازنة، ما يجعل إقرارَها النهائي أوّلَ مهمات مجلس النواب المقبل؟ يجيب رزق «أنّ هناك محاذير كثيرة لإبطال قانون الموازنة من أساسه»، ويعتبر «أنّ تعليق المادة 49 هو نوع من التسوية يشير إلى أن لا نيّة لإبطال قانون الموازنة بكامله، خصوصاً أنه أُقرّ بعد سنوات عدة من الصرف بلا موازنات عامة، وفي ظلّ التعويل على المؤتمرات الدولية لمساعدة لبنان ومنها «سيدرـ 1».
فتبيانُ أن لا قدرة للبنان على إقرار قانون موازنة ينعكس سلباً عليه، وليس المطلوب اليوم التشكيك بقدرته على هذه الخطوة بمقدار ما هو مطلوب تجاوز الثغرات في القانون، والتدبير الذي اتّخذه المجلس الدستوري بتعليق المادة 49 منه عملٌ سليم في انتظار إصدار قراره بالأساس ضمن المهل».
وبعد استحقاق البتّ بالموازنة، سيواجه المجلس الدستوري استحقاقاً آخر، فهل سيُبرهن عن استقلاليّة وحيادية في البتّ بالطعون التي ستنشأ عن الانتخابات النيابية ما بعد السادس من أيار؟