كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
لم يتوقف مصرف لبنان عن التوسّع في تنفيذ هندسات مالية يستهدف منها امتصاص الدولارات من السوق وإعادة تكوين احتياطاته بالعملات الأجنبية، رغم كل الانتقادات التي وجهت سابقاً إلى هذه الهندسات، سواء من أطراف محلية أو من صندوق النقد الدولي
يستشعر العاملون في السوق المالية أن «شيئاً ما يجري» دفع مصرف لبنان إلى تزخيم وتيرة امتصاص الدولارات من المصارف، وضغط على أسعار سندات اليوروبوندز التي شهدت انخفاضاً إلى مستويات أدنى من تلك المسجلة في عزّ أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في تشرين الثاني 2017. ما هي النتائج المتوقعة من النسخة الأحدث من هندسات مصرف لبنان المالية؟ وما هي تداعيات انخفاض أسعار السندات على المصارف؟
قبل بضعة أيام، بدأ عدد من المصرفيين بالتداول في النسخة الأخيرة من الهندسات المالية التي ينفذها مصرف لبنان. يقول مصرفي مطلع، إن مصرف لبنان يعرض على المصارف شراء الدولارات مقابل توظيف مبالغ مالية بالليرة في شريحتين من شهادات الإيداع. الشريحة الأولى تستحق بعد 10 سنوات، والعائد عليها يبلغ 11.7 في المئة، والشريحة الثانية تستحق بعد ثلاثين سنة، والعائد عليها يبلغ 13.4 في المئة.
هذا المنتج الأحدث من منتجات الهندسات المالية يعكس تنامي حاجة مصرف لبنان للدولارات، ولا سيما أن فاعلية الهندسات السابقة لم تعد كبيرة، ما اضطره إلى أن يعدّل في تركيبة المنتج السابق القائم، على أن توظّف المصارف دولاراتها عند مصرف لبنان بعائد يصل إلى 6% في المئة، على أن يمدها، في المقابل، بسيولة مصرفية بالليرة كلفتها تصل إلى 2 في المئة، ولديها الخيار في توظيفها عبر شراء سندات خزينة بآجال تصل إلى 7 سنوات، وبفائدة تصل إلى 7 في المئة، أو توظيفها بشهادات إيداع أيضاً. في المجمل، هذه العملية كانت تمنح المصارف عوائد تصل إلى 12 في المئة، أما المنتج الجديد فهو يرفع هذه العوائد ويتجنّب استحقاقات التوظيفات لديه بالدولار.
هذه الوتيرة الجديدة من الهندسات، تركت انطباعات مختلفة في السوق. فقد رأى أحد المصرفيين «أنها تأتي في سياق طبيعي، نظراً لكون مصرف لبنان بحاجة دائمة إلى الدولارات»، وأن الوضع السياسي قبل الانتخابات النيابية «يتطلب أيضاً تعزيز موجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية لمواجهة أي طارئ سياسي قد يؤثّر في السوق المالية». هناك رأي مصرفي آخر يستغرب أن يكون مصرف لبنان لديه حاجات كبيرة تضغط عليه إلى درجة تعديل المنتج بهذه الطريقة، ولا سيما أن حاكمه رياض سلامة، كان قد أعلن في اللقاء الشهري الاخير مع جمعية المصارف أنه سيُدرج شهادات الإيداع بالدولار في الخارج، أي إنه سيسمح للمصارف بأن تبيعها وتشتريها في السوق الدولية، أو أن ترهنها للاستدانة.
اللجوء إلى هذه الهندسات ورفع أسعار الفوائد على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، يعكس قلقاً ما ينتاب مصرف لبنان، ولا سيما أنه في الأسبوعين الأولين من الشهر الجاري، ارتفعت الموجودات بالعملات الأجنبية لديه بقيمة 300 مليون دولار، فيما ارتفعت محفظة السندات لديه بقيمة 700 مليون دولار.
وتعزّزت الهواجس من خطوات مصرف لبنان مع تلقي سندات اليوروبوندز ضربة قوية خلال الأيام الماضية. فبسبب ارتفاع أسعار الفوائد على السندات الأميركية، وتخلّي المستثمرين في الخارج عن السندات الصادرة عن دول تصنّف في خانة الأسواق الناشئة، سجّلت سندات اليوروبوندز اللبنانية المتداولة في الخارج، ولا سيما تلك التي تحمل أجل استحقاق طويل الأمد، انخفاضاً في السعر بلغ أمس 87 دولاراً، أي بتراجع نسبته 12 في المئة مقارنةً بسعر الإصدار، فيما هناك سندات أخرى انخفض سعرها إلى 90 دولاراً. وبحسب المصادر، ليست هناك أسباب محلية لانخفاض الأسعار، إلا أنه يرتّب على المصارف التي تحمل هذه السندات خسائر عليها أن تغطّيها بمؤونات. فالمصارف اللبنانية تحمل نحو 18 مليار دولار سندات يوروبوندز، جزء منها مدرج في ميزانياتها للتجارة بأسعار متحركة، وبموجب المعيار المحاسبي الدولي IFRS9 بات على المصارف أن تأخذ مؤونات لتغطية أي خسائر ناتجة من تحرّك الأسعار نزولاً.
وكان يمكن المصارف أن تعوّض هذه الخسائر مباشرة من خلال شراء السندات بالسعر المنخفض، إلا أنه تبيّن أن ليس لدى المصارف سيولة كافية لعمليات من هذا النوع بعدما امتصّ مصرف لبنان وجفّف السوق من الدولارات، وهو يعمل على امتصاص المزيد، فيما تفضّل المصارف أن توظّف الأموال في الأدوات المالية التي يصدرها مصرف لبنان لأنها تحقق عوائد أعلى.