كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
ليس ثمة ما هو معروف ومحسوم وقاطع سلفاً منذ ما قبل انتخابات 6 ايار بكثير ـــ وإن هو موعده بعدها ـــ سوى مسألة واحدة: نبيه برّي رئيساً للبرلمان المنتخب.
لا ريب في ان رئيس المجلس نبيه برّي صاحب الولاية الاطول في لبنان، وبين العرب، وقد يكون في العالم. لكنه ليس وحده صاحب الولاية الطويلة. عمره على رأس السلطة الاشتراعية، 26 عاماً حتى الآن، يساوي اكثر من ثلث عمر استقلال لبنان منذ عام 1943. لم يسبق لرئيس للجمهورية او الحكومة او مجلس النواب ان استمر سنين طويلة كهذه بلا انقطاع، من غير ان يجبه منافساً او يفكر احد في مرشح سواه، او تقول طائفته انها لا تريده. لم تقل ذلك ايضاً الطوائف الاخرى.
ما هو مأثور ان بطريرك الموارنة، في الغالب، صاحب الولاية الاطول على رأس سلطة في لبنان. باستثناء الياس الحويك الذي دامت حبريته 33 عاماً، فإن اياً من البطاركة المتعاقبين لم يستمروا اكثر من 25 عاماً على مرّ القرن المنصرم: انطون عريضة (23 عاماً) وبولس المعوشي (20 عاماً) وانطون خريش (11 سنة) ونصرالله صفير (25 عاماً). في ظل الاستثناء حتى، لم يعمّر رئيس للجمهورية اكثر من تسع سنوات ـــ طويلة في الاصل ـــ على رأس ولاية ثلثاها دستوري والثلث الثالث ملتوٍ بفعل التجديد تارة والتمديد طوراً، كبشارة الخوري والياس هراوي واميل لحود. لم يكن رؤساء الحكومات اقل حماسة الى الولاية الطويلة، وقد راودت رفيق الحريري فكرة غير مسبوقة ـــ غير واقعية لرئيس للحكومة ينبثق تعيينه من مجلس النواب ـــ بمناداته بتكريس ولاية ثابتة مستقرة لرئيس الحكومة في نص دستوري، اسوة باستقرار ولايتي رئيسي الجمهورية والمجلس. مع ذلك عُدَّ الرئيس الراحل صاحب الولاية الاطول في حياة سياسية هي الاقصر بين اسلافه لم تدم اكثر من 13 عاماً، بترؤسه الحكومة في عشر سنوات منها.
الا ان وجود نبيه برّي على رأس خمسة برلمانات متعاقبة (1992 ـــ 2018) استثناءٌ يصنع قاعدة جديدة، يصحّ معها القول حقاً ان الزيت يمكن ان يختلط بالماء، بيد ان الزيت يبقى زيتاً والماء يبقى ماء. شأن ان يكون الرجل حكَمَاً وخصماً في آن. يُؤخذ بإفتائه، ويسعه في الوقت نفسه رفع المتاريس.
منذ بدء تطبيق اتفاق الطائف مروراً بعقدين ونصف عقد من الزمن، اضحى نبيه برّي اشبه بقوس ارتكاز يدور من حوله النظام برمته. يتغيّر الآخرون جميعاً ويشارك هو في تغييرهم، لكنهم يظلون يدورون بازاء هذا القوس. حجج وفيرة على مرّ السنين المنصرمة راحت تبرّر ضرورة ان يبقى في منصبه، كما لو انه حاجة للجميع: مرة هو «الشعبي» الاكثر تمثيلاً سياسياً لطائفته رغم وجود حزب الله الى جانبه. مرة هو الحليف الاكثر وثوقاً به من سوريا في وقت كان كل مَن في السلطة حينذاك في صلب التحالف معها. مرة انه الاقدر عبر البرلمان على انتظام السلطات الدستورية والحؤول دون خروجها على الخيارات الاستراتيجية في شقيها الداخلي والخارجي. مرة هو المفاوض الشيعي الوحيد في ادارة توازنات اللعبة الداخلية قبالة الياس هراوي ورفيق الحريري. مرة هو المحاور الوحيد الصالح مع الخارج بازاء ما كان يُنعت به حزب الله قبل التحرير شأن ما بعد عام 2000. مرة هو حامل سر دمشق الذي كان يحتاج الحلفاء اليه. مرة هو ناظم لعبة المشاركة في السلطة ابان الترويكا وفي كل التعيينات مذ رسم زيحاً بين ان يأخذ الجميع او لا احد يأخذ. عبّرت عنها عبارته منذ ما قبل ترؤس المجلس واستمرت بعده: «مَن يحضر السوق يبيع ويشتري».
كان ذلك قبل اجلاء سوريا جيشها عن لبنان عام 2005. منذ ذلك العام لم يتغيّر الدور وأُضيف اليه: مرة هو الشيعي الوحيد الذي يتحدّث معه الغرب ولا يسعه الا ان يعرّج عليه. مرة هو الشيعي غير الايراني. مرة هو داعية التصالح الإيراني ـــ السعودي. مرة هو الضامن الفعلي لدور حزب الله في السلطة وشريكه الحقيقي عند الاحتكام الى السلاح لمنع ايذاء المقاومة او التعرّض لسلاحها، ولا يتردد في ان يكون الشريك الحقيقي في 7 ايار 2008 وفي الوقت نفسه نافذة على التسوية السياسية الحتمية التي تلته. مرة هو ابواب الحوار الوطني عندما تكون موصدة بين الجميع وترأس طاولتها مرتين. لكنه ايضاً موصِد ابواب البرلمان ـــ حينما يقال انه يحمل مفاتحيه ـــ عندما يختل انتظام علاقة السلطات بعضها ببعض. وضع بذلك معايير غير مسبوقة اقربها اثنتان على الاقل: عندما رفض مثول حكومة فؤاد السنيورة امام المجلس بعد استقالة وزرائها الشيعة مجرّداً اياها من شرعيتها الدستورية فأضحت سابقة، وعندما قال بـ«التوافقية». مفتي الجمهورية كذلك عندما يُدعى الى تخريج تسويات تتوخى غض النظر قليلاً ـــ او كثيراً ـــ عن القوانين والدستور في سبيل انتظام الاستقرار وتوازن يرضي الجميع.
منذ انتخابه في المرة الاولى، الى اليوم، مغازي شتى كثرت دلالاتها على مرّ السنوات التالية:
اولاها، انه اول رئيس للبرلمان في تاريخ لبنان يأتي اليه، وهو طرف رئيسي في الحرب اللبنانية شارك في معظم فصولها، على نحو مكمّل لانتخاب اول رئيس للجمهورية منخرط في الحرب هو بشير الجميل عام 1982 ثم من بعده شقيقه امين الجميّل. بذلك سجّل تعاقب هؤلاء سابقة لم يعد يُنظر اليها على انها احد محرّمات تقاليد الحياة السياسية اللبنانية في ما مضى: ان تكون على رأس السلطة شخصية محايدة، غير ضالعة في اقتتال اهلي. منذ السابقة عام 1982، مروراً بتكريسها عام 1992، بات وجود شخصية حزبية منبثقة من شارع شعبي امراً واجباً كي ينتظم التوازن السياسي الداخلي.
رغم انه اضحى رئيساً للسلطة الاشتراعية، لم يتخلَّ يوماً عن الموقع الاصل، رئيساً لحركة امل منذ عام 1980، وفي الوقت نفسه صاحب خيارات تجعله طرفاً منخرطاً في معادلة الخلافات والانقسامات السياسية، مقدار ما هو رئيس لبرلمان يضم الافرقاء المتنافرين، ويحاول استيعاب تناقضات الخارج في الداخل.
ثانيها، رغم الاجماع على دوره بعد كل مرة يصير الى انتخابه رئيساً للمجلس، لم يكن الانتخاب نفسه يحظى بالضرورة بالاجماع. امر رافق دورات الانتخاب الخمس تقريباً، واقترن دائماً بواقع المرحلة. في اول انتخاب له في 20 تشرين الاول 1992 نال 105 اصوات من 125 مقترعاً بينما حصل منافسه محمد يوسف بيضون على 14 صوتاً الى 5 اوراق بيض وورقة واحدة ملغاة. كانت تلك المرة الاولى والاخيرة يواجه تنافساً ـــ وإن غير متكافئ ـــ في مرحلة صعود الدور السوري السياسي والعسكري في لبنان، في اول انتخابات نيابية عامة بعد 22 عاماً من الانقطاع. على ان الانتخاب التالي أُجري في ظل استقرار المعادلة السياسية ـــ وقد اضحى رفيق الحريري في صلبها بترشحه للمرة الاولى للنيابة ـــ فحاز نبيه برّي 122 صوتاً من 126 مقترعاً في جلسة 22 تشرين الاول 1996 الى 4 اوراق بيض. في انتخاب 17 تشرين الاول 2000 نال 124 صوتاً من 126 مقترعاً الى ورقتين بيضاوين. على ان الانتخابين التاليين حضرا في ذروة شرخ وطني بين قوى 8 و14 آذار، وكان رئيس المجلس رأس حربة في الفريق الاول، في مرحلة لم تقتصر على اغتيال رفيق الحريري، بل كان الطرف الآخر من خيطها المشدود استهداف سلاح حزب الله من خلال القرار 1559 الذي رفعته قوى 14 آذار شعاراً مكمّلاً لاستثمار الاغتيال. في انتخاب 28 حزيران 2005 نال 90 صوتاً من 128 مقترعاً الى 37 ورقة بيضاء وورقة لباسم السبع. تكرّر الرقم نفسه بعد اربع سنوات في ظل استمرار الانقسام، في انتخاب 25 حزيران 2009 بنيله 90 صوتاً من 127 مقترعاً الى 28 ورقة بيضاء و3 اوراق ملغاة و3 اخرى لعباس هاشم وورقة لعقاب صقر وورقة لغازي يوسف وورقة لصبري حمادة. بذلك لم يعتد الرجل على الاجماع على انتخابه، الا ان اليوم التالي لهذا التصويت مختلف تماماً.
وقد لا يكون من باب المصادفة ان انتخابي عامي 2005 و2009 استقرا على التصويت له بـ90 صوتاً، في مقابل كمّ من اوراق بيض او اقتراع لسواه ما بين 37 و38 صوتاً. في المرتين استبق انتخاب رئيس المجلس تعمّد اصوات في قوى 14 آذار، وتيار المستقبل، راحت تقول ببديل من نبيه برّي الى حدّ ذهاب سعد الحريري الى السيد حسن نصرالله يطلب منه التخلي عن تأييده بأي مرشح آخر يختاره بنفسه، بما في ذلك نائب في حزب الله. كان الجواب قاطعاً: وحده مرشح الطائفة الشيعية.
ثالثها، بعيد انتخابه للمرة الاولى رئيساً للمجلس، سمع اللبنانيون والنواب الجدد والقدامى عبارة غير مألوفة، اذ قال في مستهل خطابه «باسم الله»، قبل ان تدرج لاحقاً. قيل يومذاك ان الرجل اتى الى المنصب مع طائفته وحزبه ومفرداتهما وانظمتهما. ثم كانت الصدمة الثانية عام 1994 حينما دعا الى تأليف الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، قبل ان يتراجع عن نص ملزم اورده الدستور، اذ اكتشف ان المسلمين كالمسيحيين ضدها. مذذاك بدأ الرجل ـــ وقد نُظر الى انتخابه عام 1992 على انه انقلاب على موازين القوى الداخلية ـــ يتكيّف مع القاعدة الجوهرية للنظام، ثم لا يلبث ان يسهر هو بالذات عليها: في احايين كثيرة موازين القوى وعلاقات الطوائف بعضها ببعض هي التي تسيّر النظام، لا النصوص والصلاحيات ولا الدستور حتى. استقرار هذه العلاقات في صلب الاستقرارين السياسي والامني. اذذاك بات نبيه برّي في غير الصورة التي طبعت دوره طوال عقد الثمانينات.
هو الرجل الذي نادى في عهد امين الجميّل بالحسم العسكري، وبتقصير ولاية رئيس الجمهورية وكان وزيراً في حكومته. الذي اشتبك مع الافرقاء جميعاً تقريباً في صدامات الحرب: وليد جنبلاط والقوات اللبنانية وحزب الله والشارع السنّي في بيروت والفلسطينيين والجيش حتى. الرجل ايضاً الذي كسر شوكة رفيق الحريري منذ اليوم الاول لترؤسه اولى حكوماته عندما رفض منحه صلاحيات اشتراعية، وناوأ التمديد للياس هراوي عام 1995. الرجل نفسه يمسي الآن ملاذ وليد جنبلاط ويحتضن سعد الحريري على وفرة «النقار» ـــ والعبارة له ـــ مع والده الراحل. الذي ينقز من فؤاد السنيورة، ولا تستغني القوات اللبنانية عن التقرّب منه. يصادق امين الجميّل، ولا ينسى مرة بعد اخرى ان يذكّر بدوره في إسقاط 17 ايار فاتحة تقويض حكم الرئيس. هو ايضاً رئيس المجلس الوحيد الذي وقف في طريق انتخاب رئيس للجمهورية هو ميشال عون وجهر بالتصويت ضده، بعدما اعتاد اسلافه على المباهاة باضطلاعهم بادوار ساهمت في انتخاب رؤساء.
وقد يكون، في قرارة نفسه، «اقترف» خطأين تاريخيين من دون ان يجهر بهما لكنهما علّماه حتماً: عندما دافع عن انتخاب اميل لحود عام 1995 ثم تحمّس لانتخابه عام 1998، قبل ان يكتشف غداة جلسة 15 تشرين الاول، في اول لقاء بالرئيس المنتخب، الصدمة حينما اخطره اميل لحود انه لا يقرأ الجرائد ولا يهتم بها. ردّه المقتضب: اوف. هو ايضاً وراء اقتراف ثان حينما برّر الاحتكام الى المادة 74 لانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية عام 2008، مفتتحاً سابقة تيقن لاحقاً ان كلفتها باهظة.
الولاية الأطول قياساً بالأسلاف
ليس نبيه برّي الوحيد صاحب الولاية الطويلة قياساً باسلافه: صبري حمادة 14 سنة متقطعة مع بشارة الخوري وفؤاد شهاب وشارل حلو، كامل الاسعد 16 سنة بينها 14 سنة متواصلة مع سليمان فرنجيه، عادل عسيران 5 سنوات متواصلة مع كميل شمعون، حسين الحسيني 8 سنوات بلا انقطاع في عز سني الحرب والانقسام. حتى اتفاق الطائف كانت الولاية سنة، من ثم اصبحت من عمر المجلس، فانتخب في خمسة برلمانات متعاقبة طوال 26 عاماً، وصولاً الى سادسها الوشيك غداة السادس من أيار 2018.