كتبت نجلة حمود في صحيفة “الأخبار”:
جولة أخيرة تقود رئيس تيار المستقبل سعد الحريري على مدى 72 ساعة في العديد من مدن وقرى وبلدات دائرتي الشمال الأولى (عكار) والثانية (طرابلس والمنية والضنية) وجزء من الثالثة وتحديداً الكورة.
هي جولة الـــ«سلفيات» الحريرية الأخيرة في الشمال. من بعدها، الإتكال على زنود المرشحين وماكيناتهم وتحالفاتهم وأموالهم. للماكينات الانتخابية مخصصاتها المادية حصراً بالمتطلبات اللوجستية. مسؤولية المندوبين (أكثر من عشرة آلاف) تقع على المرشحين. ضمور المال لا بد من تعويضه. في هذه الخانة، تندرج جولة سعد الحريري الختامية في الموسم الانتخابي الحالي. جولة قياسية بكل معنى الكلمة لم يسبقه أحد إليها. لا والده ولا أي رئيس حكومة منذ الاستقلال حتى الآن. يكاد الرجل يفاجئ نفسه. في عكار وحدها، ستنتظره 17 قرية. رؤساء البلديات والمخاتير المحسوبين عليه في ذروة الاستنفار. الأولوية لتأمين الحشد للزائر الكريم بحضوره و«سلفياته». الجولة في عكار تبدأ بنزول مروحيته في أكروم عند الثامنة والنصف صباحاً وتستمر حتى ساعات المساء، ومن المفترض أن يزور خلالها غالبية المناطق العكارية ساحلاً وجرداً، من منطقة جبل أكروم، إلى وادي خالد، القبيات، البيرة، الكويخات، حلبا، جبرايل، تكريت، البرج، عكار العتيقة، فنيدق، مشمش، عين الذهب، وصولاً إلى برقايل، ببنين إضافة إلى سهل عكار حيث سينظم لقاءان أحدهما في مطار القليعات، و«مسك الختام» في كفريا في قضاء الكورة حيث تياره منقسم على نفسه منذ سنوات.
استهل الحريري، يومه الشمالي الأول من طرابلس. «الصبحية» عند محمد كبارة، كانت «تاريخية»، على حد تعبير «أبو العبد». المحطة الثانية في دار الإفتاء في طرابلس وتخللتها خلوة مع المفتي مالك الشعار و«جمعة» رجال دين. كل محاولات تحييد الشعار باءت بالفشل. أعلنها الأخير بالفم الملآن: الحريري «الرجل الأول» و«الأمل الكبير» و«زعيم عظيم» (تعبيرات مأخوذة أو مسروقة من قاموس الشطر الكوري الشمالي). محطته الثالثة كانت في المسجد المنصوري الكبير. كان لا بد بالأمس من زيارة مجاملة لمحمد الصفدي، ومثلها غداً لأسعد هرموش. القاسم المشترك بين الأخيرين تقديمهما تسهيلات انتخابية لسعد الحريري. مضى الحريري في جولته. الحشد كان يتنقل من مكان إلى آخر. باب التبانة، البداوي، الميناء. هنا المحطة ـــ «الغصة». في هذه المنطقة صديق تاريخي قديم لآل الحريري وللسعودية وقيادتها، اسمه توفيق سلطان (أبو راشد). لا يريد الحريري أن «يبلع» كيف أن هذا الرجل قرر أن يصبح خط الدفاع السياسي الأول عن نجيب ميقاتي خصم الحريرية السياسية الأول في الميدان السني. أطلق الحريري النار على ميقاتي. اتهمه بعرقلة كل مشاريع طرابلس. سنة واحدة من الحكم الميقاتي كانت كفيلة للإطاحة بعشرين سنة من الوعود الحريرية. لم يترك الحريري صغيرة أو كبيرة إلا وحمل مسؤوليتها لـ«الإنقلابي» نجيب ميقاتي. برر هذا الهجوم العنيف بقوله للإعلاميين: «لا أستطيع إلا أن أرد على الحملات الجائرة المنطلقة من مكان قريب من هنا (دارة ميقاتي في الميناء)، والتي تحملنا مسؤولية هذه المشكلة (جبل النفايات)، لأهداف انتخابية».
المفارقة أن ميقاتي الذي يقدم نفسه فجأة شخصية هجومية للجمهور الشمالي، أكمل خطابه بقرار النزول الاثنين إلى الشارع. تشاور مع أركان اللائحة. الرد يبدأ من لحظة مغادرة الحريري. «لن نسكت بعد الآن» قال أحدهم. هم «يريدون شد العصب الانتخابي بالغرائز وكان الأحرى بهم أن يخاطبوا مصالح الناس وحاجاتهم وواقعهم الصعب. نعم لن نسكت بعد الآن حتى يستطيع المواطن الطرابلسي أن يميز بين الأسود والأبيض».
لا صمت انتخابياً في الشمال. في موسم المغتربين أم في موسم المقيمين. من طرابلس، توجه الحريري إلى القلمون. هناك، اختار الرجل أن يتصرف كأنه في دارته في «بيت الوسط». ركب على سطح سيارته المصفحة مئات الأمتار في شوارع القلمون وصال في أحيائها الضيقة. الهدف امتصاص ما فعله «جماعة التيار» مع زيارة ميقاتي الأخيرة لهذه البلدة الشمالية. أرز وماء زهر وورود و»سلفيات» بالطول والعرض ومن زوايا متعددة. لا محظور أمنياً لهكذا انكشاف لرجل غاب عن بلده أربع سنوات بسبب الهاجس الأمني. إنه موسم الانتخابات. لا شيء يقدمه لأهله هناك إلا حضوره وصورته معهم.
في منتصف الطريق بين القلمون وطرابلس، يقع فندق جميل اسمه «كواليتي إن». فندق اعتاد سعد الحريري وفريقه وماكينته المركزية أن يقيموا فيه في مواسم الانتخابات النيابية والبلدية منذ عام 2005 حتى آخر انتخابات نيابية (2009) وبلدية (2016). هذا الفندق لو كانت جدرانه تنطق لأفصحت الكثير عن المال الذي كان يصرف هنا وهناك. لم يكن الحريري مضطراً لأكثر من زيارة واحدة لكل قضاء في الشمال. الكواشرة في عكار. سير في الضنية. طرابلس. المنية الخ…
مع شح المال، لا بد من تعويض. ما إن وصل الحريري، ليل أمس، إلى الفندق، حتى غطس في حمام طويل. أزال الروائح والعطور وكل ما لحقه في جولاته. المشهد لا بد وأن يتكرر. لا شيء يقدمه لجمهوره إلا «السلفيات». فلتكن محطات جولته عديدة. سيسجل التاريخ أنه أول رئيس حكومة تدخل صوره إلى الكثير من بيوت الشمال. إنها مدرسة انتخابية جديدة. لا بد أن تقرأها أعتى الديموقراطيات وأن تحاول استنساخها. انتخابات بلا أموال. أهلاً وسهلاً بــ«السلفيات».