سؤال يحضر في موازاة هذا الخطاب الواثق من النصر الكاسح: هل هذا ممكن؟
لعلّ نظرة سريعة على الصورة المتنية سياسياً وشعبياً، يمكن ان تقدّم إجابة موضوعية على هذا الخطاب، وتسقطه فوراً في خانة المبالغة المجافية لواقع المتن شكلاً ومضموناً.
واضح انّ التيار كبّر الحجر كثيراً، وتكبير الحجر نادراً ما يصيب هدفه، وان أصابه، فبشقّ النفس او جرّاء ضربة حظ غير محسوبة. وفي حالات كهذه نادراً ما يتضرر «الهدف»، بل المتضرر الاكبر وربما الأوحد هو رامي هذا الحجر!
هذا الخطاب عن النصر الكاسح، ما هو الّا حالة منبرية تبدو وكأنها تُحاكي منطقة في عالم آخر، او جمهوراً أطرش لا يسمع او أعمى لا يرى، والفاقع في هذه الحالة المنبرية انها لا تنطبق ليس على المتن فقط، بل لا تنطبق على كل الدوائر، التي ثبت انّ التيار موجود في بعضها كواحد من مكوّناتها، أو بالأحرى هو شريك فيها وليس مالكاً حصرياً لها سياسياً وشعبياً، ويتحكّم فيها انتخابياً وفق مشيئته وهواه. وترشيحاته وتحالفاته في هذه الدوائر تؤكّد ذلك.
إنّ تقييماً بسيطاً لهذا الخطاب، يبيّن انه يصطدم:
• أولاً، بعدم انطباقه مع خريطة المتن وتَوزّع القوى فيها. هذه الخريطة ليست برتقالية بالكامل، التيار موجود فيها وله مربّعه وحضوره وليس في الامكان نكران فعاليته، ولكن في المقابل هناك مربّع «الكتائب»، مربّع «القوات»، مربّع «الطاشناق» مربّع «القومي»، وايضاً هناك مربّع سياسي خدماتي يحتلّه ميشال المر. وكلّ هذه المربعات لها حضورها وفعاليتها التي ليس في الامكان نكرانها ومقاربتها وكأن لا وجود لها.
• ثانياً، بافتقاد التيار قدرة الحسم والنصر وحيداً، لو كانت متوافرة لخدمته في انتخابات العام 2009، ولما كان آنذاك في حاجة ماسة وملحّة الى تحالفات لتمرير مرشحيه.
• ثالثاً، بالطريقة التي اتّبعها التيار في صياغة تحالفاته ونوعية المرشحين الذين اختارهم، وهي طريقة عَكّرت المزاج المتني بشكل عام وجانباً كبيراً من المزاج البرتقالي لأنها كسرت الهالة التي كانت تحيط بالتيار، وجعلته في نظر المتنيين وغيرهم مرادفاً للغدر ربطاً بالطريقة الاحتيالية التي تمّ التعاطي فيها مع ميشال المر.
• رابعاً، بالإرباك الذي تعانيه لائحة «المتن القوي»، وعدم تماسكها، ويعترف بذلك لصيقون باللائحة، فالصراع مُحتدم في داخلها على الصوت التفضيلي، والأمثلة كثيرة:
1 – في الشق الماروني، لا ينام أهل اللائحة على حرير الفوز، القلق واضح من ان تتقدّم لوائح اخرى من الباب الماروني. وليس خافياً «الجهد» الذي يبذله احد اعضائها ليحوز على أعلى نسبة اصوات تفضيلية مارونية تحديداً، لتضمن له الفوز الأكيد. وهذا الجهد لا يجعل سركيس سركيس ينام على حرير الفوز الموعود به، بل يعزّز خشيته من ان يكون كل ما بَذله للركوب في هذه اللائحة، مجرّد شيك بلا رصيد تفضيلي. ما يصعّب عليه إمكانية الفوز، ومن الطبيعي في هذه الحالة ان يرفع سركيس صوته بالشكوى.
2 – في الشق الماروني القومي، تبرز مشكلة بوجهين:
• الاول، إنتماء غسان الاشقر وكورين الاشقر الى جهة قومية واحدة، ترشيحهما أربك المزاج القومي، لتنافسهما داخل البيت الواحد، فيأخذان من بعضهما البعض، من دون ان يتمكن أي منهما التصدّر او نيل نسبة اصوات تفضيلية تعطي أيّاً منهما المرتبة الثانية بعد الاصوات التفضيلية المارونية التي ستصبّ لمصلحة مرشح التيار حصراً. والشعور العام لدى القوميين يعكس خشية من ان يهبط بهما هذا «التنافس» الى مرتبة متدنية، إن لم تكن المرتبة الاخيرة في اللائحة، بما يعدم إمكانية فوز أيّ منهما.
• الثاني، وجود عامل إرباكي اضافي للمزاج القومي، عبر المرشّح باللونين القومي والبرتقالي الياس بو صعب، الذي يعدّ شريكاً مضارباً على زميليه «الأشقرين» ضمن اللائحة نفسها. وسواء اكانت نسبة الاصوات التفضيلية التي قد ينالها من الكتلة القومية صغيرة او كبيرة، فهو يأخذ من طريق زميليه ويزيد من الشحّ في الاصوات التفضيلية لأيّ منهما.
أمام هذه الحالة الارباكية، لم يعد سراً النقاش والهمس في الاوساط القومية حول موجبات الشراكة في لائحة الفوز فيها غير مضمون، وكذلك حول موجبات جعل الحزب القومي يدفع من جيبه، على نحو يحوّل الكتلة القومية الناخبة الى مجرّد جسر لتأمين حواصل إضافية للائحة، يستفيد منها مرشّحون آخرون على حساب القوميين.
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، هو الحركة المتزايدة لـ الياس بو صعب في هذه الفترة، والمتنيون يتداولون بأحاديث عن «جهود مكلفة» تُبذل لجذب مزيد من الشريحة القومية لـ»تفضيل» بو صعب، على اعتبار انه الأوفر حظاً من شريكيه «الأشقرين»، وكذلك لجذب مزيد من الشريحة الارثوذكسية لـ«تفضيله» ايضاً على اعتبار انه الأوفر حظاً من زميله غسان مخيبر، ذلك انّ المعركة بالنسبة اليه تبدو مصيرية، إذ انّ فوزه بأحد المقعدين الارثوذكسيين في المتن لا يفتح امامه فقط باب الدخول الى البرلمان، بل ينقله الى المعركة الأكبر التي يحضّر لها التيار الوطني الحر، أي معركة نيابة رئاسة المجلس النيابي التي قرر التيار من الآن ان يخوضها بـ الياس بو صعب.
3 – في الشق الكاثوليكي، في الاساس الكتلة الكاثوليكية الناخبة في المتن هي الاقل عدداً، والاقل ثقلاً وتأثيراً، ووجود خمس لوائح في المتن كان من نتائجه المباشرة تشتيت الصوت الكاثوليكي. وهذا الامر لا يمنح المرشح الكاثوليكي للتيار ادكار بولس معلوف شعوراً بالاطمئنان، اضافة الى انّ النسبة التي يمكن ان ينالها من الاصوات الكاثوليكية لا تجيّر له أصواتاً تفضيلية تقرّبه من حافّة الفوز ضمن اللائحة، بل يحتاج الى اصوات من طوائف اخرى، داخل تياره أولاً، ومن اهل وحلفاء اللائحة ثانياً.
وهذا ليس بالأمر السهل، فالقومي سيعطي نفسه، والطاشناق كذلك، وسركيس لن يقدّم صوتاً واحداً لغيره، أمّا الصوت الماروني البرتقالي فمشغول عليه لكي يصبّ لصالح بعض مرشحي التيار الموارنة، والصوت الارثوذكسي البرتقالي مشغول عليه لكي يصبّ بالدرجة الاولى لصالح بو صعب.
ما يعني انّ ما قد يناله المعلوف من أصوات تفضيلية لا يعتدّ بها، ليصبح فوزه مرهوناً بأمرين: الاول، هو الحظ، اذا ما ضرب معه بعد إحصاء حواصل اللوائح الفائزة، وتوزيع حصصها عليها، فقد يمنحه الفوز حتى ولو كانت أرقامه ضعيفة جداً. والثاني، ألّا تتمكن ايّ من اللوائح الأخرى من بلوغ الحاصل المطلوب للتمثيل. وإذا كانت فرَص الحظ ضئيلة، فإنّ الرهان الثاني خاسر سلفاً.
4 – في الشق الارمني، إرباك واضح لدى حزب الطاشناق لا يقلّ عن إرباك الحزب القومي، فالصوت الارمني موزّع بين كل اللوائح. وما يريده الطاشناق هو ان يحقق نسبة عالية من الاصوات التفضيلية التي تحسم فوز مرشحه، وهو حتماً سيصبّ بالتفضيلي لصالح مرشّحه، لكنّ ذلك ليس كافياً لإيصاله الى عتبة الفوز، بل هو في حاجة الى مزيد من «حلفاء اللائحة»، الذين يبدو كل واحد منهم «هَمُّو بحالو». ولذلك بدأت الاصوات الارمنية تتعالى احتجاجاً، فلا تعنيها ان ربحت اللائحة ام لا، ما يعنيها فقط هو مرشّحها، الذي لا تراه في دائرة الاطمئنان. بل في دائرة الخشية من تعرّضه لكمين يغدر به.
صدى الصوت الأرمني المُحتج، قيل همساً، وعلناً، حتى بلغ مراجع رفيعة المستوى. وثمّة من يقول انّ «المسؤول الكبير» في الدولة – والذي قال شخصياً اكثر من مرة انه لا يتدخل في الانتخابات – تولّى شخصياً الاتصال أربع مرّات بشخصيات أرمنية لاحتواء احتجاجها، وليذكّرها بما مفاده: «لقد وعدناكم ووَفينا، وكنّا صادقين وأوفياء معكم، فكونوا انتم كذلك وشدّوا في اتجاه اللائحة». كان هذا المسؤول يعكس الخشية من ان تفلت الاصوات الارمنية من اليد البرتقالية، وتصافح لائحة الحليف الدائم للأرمن ميشال المر.
– خامساً، انّ خطاب النصر البرتقالي الكاسح، يصطدم بواقع اللوائح المنافسة. فـ»الكتائب»، وبمعزل عن دقة توقعاتها او عدمها، تتحدث عن حاصل واثنين، و«القوات» كذلك، مع انّ هناك من بدأ يتحدث عن إحصاءات قواتية سلبية، ومحاولات لفتح قنوات اتصال في جهات سياسية معيّنة. يضاف الى ذلك لائحة ميشال المر، التي تخوض انتخابات بقوة ذاتية صاغَها ماضي العلاقة بين المر والمتن وحاضرها، وما زرعه في وجدان أهلها، وليس بشعارات موسمية كبرى تسقط عند أول مفترق. وفي خلاصة الأمر سيقول المتن كلمته الأحد، ولن يستطيع التيار أن يتحكّم بالمزاج المتني، ومهما علا الصوت لن يستطيع أن يقول: المتن لي.