يتّجه لبنان، المترنّح فوق فوهة «برميل بارود» إقليمي يُعانِد الاشتعال حتى إشعار آخر، نحو واحدةٍ من أكثر عملياتِ خلْط الأوراق السياسية تَخبُّطاً واتساعاً منذ اتفاق الطائف مع نهاية الحرب، وربما أشدّ وقْعاً من الانقسام الحاد الذي ساد الحياة السياسية عقب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري العام 2005 وانسحاب الجيش السوري في ابريل من العام نفسه وانشطار البلاد بين معسكريْ 8 و 14 آذار.
فلبنان، الزاحفِ إلى انتخاباتٍ نيابية ستجري الأحد المقبل ولأوّل مرةٍ وفق قانونٍ هجين يقوم على النسبية المفخَّخة بتقسيماتٍ ذات طبيعة طائفية ومذهبية وبصوتٍ تفضيلي، يحْبس أنفاسه على وقع السؤال عن اليوم التالي بعد فرْز صناديق الاقتراع وانكشاف البلاد على توازناتٍ جديدة تشي بأزماتٍ «عامرة» يصعب التكهن بمداها ومنزلقاتها وأثمانها والمآل الذي ستَدْفع في اتجاهه البلاد.
وفي لحظة تَعاظُم المخاوف من تَحوُّل لبنان ملعبَ نارٍ في المواجهة المحتملة بين إيران واسرائيل وتَزايُد الكباش الدولي في سورية بين الغرب وروسيا وانضمام أوروبا الى الضغوط الأميركية، أقلّه لتعديل «النووي الإيراني»، باشر «حزب الله» التلويح بالخروج على «الستاتيكو» الحالي، واسمه الحرِكي «التسوية السياسية» التي كانت أَنهتْ الفراغ الرئاسي وحمتْ الاستقرار وأَبعدتْ البلاد عن الحريق الإقليمي وضَمَنَتْ إجراء الانتخابات عبر التوافق على قانون النسبية.
وإذا كان «حزب الله» مارَسَ التدرّج في الإفصاح عما يريده بعد الانتخابات متوّجاً حملته بالإعلان عن عزمه ضمّ «بناء الدولة» إلى مشروعه في إشارةٍ واضحة إلى إرادةٍ بالتحوّل «شريكاً كامل الأوصاف» في القرار السياسي والاقتصادي، فإن معارك الأيام الأخيرة قبل «الصمت الانتخابي»، أوحتْ بما هو أكثر من انفجار «القلوب المليانة» بين أكثر من طرف، قاسمُها المشترك «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل.
فهذا التيار الذي يَطمح إلى الخروج من «الماراثون» الانتخابي بكتلةٍ وازنة تكون أشبه بـ «ذراع العهد»، اي الرئيس ميشال عون، وتَحْجز لباسيل مكانةً متقدمة في المعركة المفتوحة منذ الآن على رئاسة الجمهورية، دَخَل في اشتباكٍ تجاوزتْ حماوتُه «عُدّة الشغل» الانتخابية، مع 3 قوى أساسية هي:
* المواجهة التصاعُدية مع رئيس البرلمان نبيه بري الذي سبق أن وصفه باسيل بـ «البلطجي» واختار استفزازه عبر الذهاب باتهاماتٍ ضدّه بالفساد والهيمنة إلى عقر داره، أي دائرة بري في صور – الزهراني، الأمر الذي دفع رئيس البرلمان الى «بق البحصة» في هجوم لاذع على باسيل ووصفه بـ «البرغوث» والطائفي والمصاب بـ «جنون العظمة» و«المعقّد نفسياً».
* الحملات القاسية المستجدّة بين طرفيْ «تفاهم معراب»، أي «التيار الحر» وحزب «القوات اللبنانية»، وانزلاقها إلى ما كانت عليه قبل التفاهم الذي أرسى ما يشبه «ميثاق شرف» بينهما أنهى عدائية امتدّت على نحو 30 عاماً، وهي الحملات التي تكاد أن تُنهي مفاعيل الدور الذي اضطلعت «القوات» في فتْح الطريق أمام عون إلى الرئاسة.
* فائض التوتر الذي يطبع علاقة «الوطني الحر» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» وزعيمه النائب وليد جنبلاط، وسط اتهاماتٍ متبادلة تساهم في تعميق الشروخ بين الجانبيْن. فجنبلاط يَستشعر حصاراً عليه عبر سلوك «التيار» وتَحالفاته، وباسيل يَمضي في اتهام «الجنبلاطية» بمحاولة وضْع اليد على التمثيل المسيحي في الجبل.
هذا المناخ المأزوم ومَعاركه المتمادية، يجعل مرحلةَ ما بعد الانتخابات واستحقاقاتها أسيرةَ «الخناجر المسمومة» في لعبة تَقاسُم السلطة و«كعكتها»، في اللحظة التي تتّجه الأنظار إلى ما سيكون عليه «حجم» زعيم «تيار المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري ومكانته في المعادلة بعد «الأفخاخ» التي نُصبت لتحجيمه.
فالحريري، الذي يدرك حجمَ التحديات المنصوبة لزعامته في الشارع السني وتالياً لموقعه في اللعبة السياسية، لم يهدأ وهو ربما سجّل رقماً قياسياً لم يجارِه فيه أحد، في صولاته وجولاته في الاتجاهات الأربعة للبنان (الجنوب، البقاع، الشمال والجبل إضافة الى بيروت)، وسط مؤشراتٍ على نجاحه في استنهاض شارعه الذي مُني بانتكاساتٍ لا يُستهان بها.
وبدا لافتاً أن الحريري، الذي أنهى أمس جولة استمرت 3 ايام في الشمال، من طرابلس فالمنية – الضنية الى عكار، لم يشأ التجييش بشعارات كبيرة حرصاً منه على «التسوية والاستقرار»، واستخدم أسلحةً من «اللحم الحي» في عمليات التحشيد… الـ «سيلفي» والعاطفة، و«سيدر 1» و «الوفاء» وما تَيسّر من وعودٍ، وكلها أدواتٌ حرّكت الشارع الذي خرج على مدى 3 أيام في ملاقاته شمالاً.
غير أن السؤال المحوري الأهمّ هو عن «حزب الله»، الطرف المحلي – الاقليمي الأكثر قدرة على إدارة دفّة الأحداث في لبنان، وعن موقفه من «حرب داحس والغبراء» بين حليفيْه حزب رئيس الجمهورية وحركة رئيس البرلمان، وعن مغزى قراره بالدخول ومن الباب العريض إلى «جنّة» السلطة، وسط كلام لافت أطلقه رئيس كتلة نوابه محمد رعد عن انه «خلال الفترة الماضية تكشفت لنا بعض الذئاب التي تقف في الجبهة الداخلية متواطئة مع الإرهاب الدولي، وكانت تحرص كل الحرص على أن تكون بيدهم الأكثرية النيابية من أجل أن تمرر كل المشاريع التي يريدها الغرب الدولي والعرب الاقليمي».