كتب الان سركيس في “الجمهورية”:
يُعتبر الأرثوذكس من المذاهب الأساسية المؤسِّسة للبنان، وهم المذهب الثاني مسيحياً والرابع وطنياً من حيث الحجم الديموغرافي، كذلك فإنّ حصّتهم في تركيبة الدولة واضحة، إذ يملكون 14 نائباً، كما أنّهم يحظون بمنصبَي نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء، وقدّ ثُبّتت لهم حقيبة سياديّة بعد «إتفاق الطائف».
تاريخٌ مضيء
لا يمكن النظر الى وضع الأرثوذكس من دون مراجعة تاريخهم الطويل، على الصعد السياسية والفكرية والإقتصادية والثقافيّة والفنّية الإبداعيّة. فأوّلُ رئيس للجمهوريّة اللبنانية كان شارل دبّاس عام 1926 أثناء فترة الإنتداب الفرنسي، وفي عهده تحقّقت إنجازاتٌ كثيرة لعلّ أبرزَها النشيد الوطني اللبناني الذي ينشده كلّ مواطن مؤمن بهذا البلد.
ولم يقتصر الحضورُ الأرثوذكسي الرئاسي على مرّة واحدة، بل تكرّر، ولو لفترة قصيرة مع الرئيس بترو طراد عام 1943، وكان الأرثوذكس في تلك الحقبة من روّاد التطوّر والحداثة، ولم يقتصر نشاطُهم على لبنان بل تخطّاه الى البلاد العربية.
ولا يمكن ذكرُ الطائفة الأرثوذكسيّة من دون تذكّر المفكّر شارك مالك الذي لعب أدواراً داخلية وعالمية، فمالك إبن بلدة بطرّام الكورة، كان من أهم واضعي شرعة حقوق الإنسان، تلك الشرعة التي تستعين بها البشريّة حتّى يومنا هذا لحماية الأمم من الانتهاكات المتكرّرة لحقوق الإنسان.
كذلك، فقد لعب مالك دوراً مهماً فكان وزيراً للخارجيّة أيام عهد الرئيس كميل شمعون وفي ظلّ النزاع بين الأميركيّين والسوفيات أثناء فترة الحرب الباردة، ولم يقف دورُه عند هذا الحدّ بل كان من أهمّ مفكّري الجبهة اللبنانية في أخطر مرحلةٍ مرّت على مسيحيّي لبنان.
لم يقتصر الإنتاجُ الديبلوماسي للأرثوذكسيّة على مالك، بل سطع نجمُ وزير الخارجية الراحل فؤاد بطرس الذي لعب دوراً بارزاً أثناء فترة ولاية الرئيس الياس سركيس، يومها، كانت النارُ تأكل لبنان، ورائحةُ البارود تفوح في كلّ شارع وحيّ، والسياساتُ الدولية والإقليمية تتجاذب وطنَ الأرز، وقد نجح بطرس في اختباراتٍ عدّة وكان من أهمّ وزراء الخارجية الذين مرّوا بتاريخ لبنان.
ولأنّ الأرثوذكسيّة فكر، فقد لعب جبران تويني من ثمّ نجله غسان دوراً بارزاً في الصحافة اللبنانية والعربيّة، وكانا أساسيَّين في اللعبة السياسية، فقد تولّى غسان تويني مناصبَ داخلية ودبلوماسيّة عدّة.
وكذلك، لعب ميشال المرّ أدواراً كبيرة على أصعدة وطنية عدّة أبرزها:
1- سُمّي صانع الرؤساء لعدد من العهود.
2- لعب دوراً اساسياً في إنهاء حال الحرب الأهلية.
3- لعب دوراً إغاثياً رائداً لكل البنى التحتية في المتن..
محاولاتُ إلغاء
وأمام هذا الواقع التاريخي، هناك مَن يحاول إلغاءَ آخر الحالات الأرثوذكسيّة المستقلّة والقضاء عليها، وبعدها إلغاء مستقبل الأرثوذكسية المستقلّة، وهذه العملية ليست نابعة من تحريضٍ طائفيٍّ أو مذهبيّ، بل إنّها تنمّ عن تصرّفات بعض الأحزاب والقوى السياسية المعروفة.
في حين يطلق البعض شعاراتٍ لاستعادة حقوق المسيحيين، فإنّ إقصاءَ أيّ فئة أو مذهبٍ مسيحيّ سيؤدّي إلى إضعاف المسيحيين، خصوصاً أنّ التركيبة المسيحية دقيقة، ولم يعد الجسمُ المسيحي يتحمّل مزيداً من التهميش لأيِّ مكوّنٍ من مكوّناته.
إذاً، لماذا هذا الإستسهالُ في ضرب الأرثوذكسية السياسية المستقلّة؟ ولماذا تذهب المواقعُ الأرثوذكسية جوائزَ ترضية للأحزاب المسيحية وغير المسيحية؟
صانعُ الرؤساء
وفي حين تشتدّ حربُ الإلغاء على ميشال المرّ لا يمكن كتابةُ أيّ صفحة من تاريخ لبنان منذ الستينيات من دون ذكر دوره، وخصوصاً في الإستحقاقات الوطنية الكبرى.
وبغض النظر عن التاريخ الخدماتي والوقفات الى جانب المتنيّين على مدى السنوات الماضية، فإنّ ميشال المرّ شكّل ظاهرةً في الحياة السياسيّة، فهو مَن أتقن رسمَ الاستراتيجيات السياسية والإنمائية وكان دائماً «مدوِّراً» للزوايا، وصاحبَ الباع الطويل في حلّ الأزمات التي كانت تحصل.
لم يفرقّ المرّ طوال مسيرته السياسيّة بين متنيٍّ وآخر، بين مؤيّدٍ أو خصم، بل إنّ المتن الذي يشكّل صورةً مصغّرةً عن التركيبة المسيحية اللبنانية شكّل الإنطلاقةَ لزعامة المرّ.
وإذا نظرنا الى التركيبة النيابية المتنيّة نجد أنّ هناك 8 مقاعد مسيحيّة: 4 موارنة، 2 أرثوذكس، ومقعد لكلّ من الكاثوليك والأرمن.
وتبيّن هذه التركيبة أنّ المرّ لم يكن زعيماً لمذهبٍ مسيحيٍّ واحدٍ دون الآخر، بل كان زعيماً مسيحياً بكل ما للكلمة من معنى، لأنّ أيَّ مذهب من هؤلاء المذاهب المسيحية الأربعة غيرُ كافٍ لوحده من أجل حتى الفوز بمقعد نيابي.
وعلى رغم أنّه عميدُ الأرثوذكس، إلّا أنّ البعض يقول إنّ ميشال المرّ كان حريصاً على الموارنة أكثر من الموارنة أنفسهم، والدليل على ذلك، أنّه يُطلَق عليه لقبُ «صانع الرؤساء» وبكل رئيس ماروني إنتُخب كانت له حصّة وأيادٍ بيضاء.
وبغضّ النظر عن شخصية رئيس الجمهورية ودوره وآدائه، إلّا أنّ موقعَ رئاسة الجمهورية الماروني هو الضمانُ الأول لبقاء الموارنة والمسيحيين في السلطة، ويشكّل المركزُ المسيحيُّ الأول لمسيحيّي لبنان والشرق، لكنّ النزاعاتِ المارونية- المارونية أدّت الى الفراغ الرئاسي في بعض الفترات، وحتى إنها كانت ستؤدّي الى ضياع الرئاسة من أيدي المسيحيين.
حضر «أبو الياس» في استحقاقاتٍ عدّة، فكان دورُه أساسيّاً في انتخاب الرؤساء الياس سركيس، بشير الجميل، الياس الهراوي، إميل لحّود، ميشال سليمان، لدرجة أنه اختلف مع العماد ميشال عون في عام 2007 لأنّ تكتل «التغيير والإصلاح» كان يقاطع جلساتِ انتخابِ رئيس الجمهورية حينها، ويترك البلاد بلا رئيسٍ مارونيّ.
لا يمكن ذكر أبو الياس من دون استذكار عصر «المارونية السياسية»، فعلى رغم اعتداله وتشكيله مرجعيّةً أرثوذكسية فإنه الشخصية الوحيدة الكبرى المتبقية من تلك الحقبة، فهو الذي تحالف مع مؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميّل خصوصاً عام 1968 عندما حققت لوائحُ «الحلف الثلاثي» فوزاً كبيراً في أقضية جبل لبنان، وعايش فترة زعامة الرئيس شمعون الذي كان بمثابة البطريرك السياسي للموارنة، ورافق الزعامات المارونية في أزماتها، والساحة المسيحية في نكباتها.
يختزل المرّ تاريخاً طويلاً من النضال السياسي محاوِلاً الحفاظَ على الوجود المسيحي في الدولة، من المركز الأول، أي رئاسة الجمهورية، الى أصغر موظّف في الإدارات، وهذه بحدّ ذاتها ظاهرة.
يستطيع أيُّ رجل سياسي الإكتفاء بما حقّقه وتحصين ساحته أو منطقته، لتأمين المركز النيابي مدى العمر، ويكتفي بعدم التدخّل في الأمور الكبرى التي قد «تحرق الأصابع» في بعض الأحيان، لكنّ المراكزَ والمناصبَ لا تهمّ بعض الأشخاص الذين يتعدّون الحدود التي رسمها لهم النظام الطائفي اللبناني وحصرهم بها مانعاً تقدّمَهم.
تقدّم المرّ على المناصب والمراكز، وأبدى حرصاً على الموقع الماروني الأول في الدولة أكثر من بعض «أهل البيت»، واستحقّ عن جدارة لقبَ صانع «الرؤساء» والمحافظ على هذا الموقع. فهل يكافَأ المرّ بهذه الطريقة ويصبح عرضةً لحربِ إلغاءٍ يُلغى من خلالها آخرُ عناقيد الأرثوذكسية المستقلّة التي عملت للحفاظ على الدور المسيحي في لبنان؟