لم تَنتظر النتائج السياسية للانتخابات النيابية الصاخبة التي جرتْ في لبنان أول من أمس الإعلانَ الرسمي عن «المفاجآت غير المفاجئة» التي تطايرتْ من صناديق الاقتراع، ومعها مفارقاتٌ عميقةٌ تتصل بالتوازنات داخل السلطة وبالموقع الإقليمي للبنان كـ «صدى» لتحولاتٍ لم تبلغ نهاياتها الأخيرة في المنطقة.
كان يكفي، في ليلة حبْس الأنفاس في الصناديق الذاهبة إلى الفرْز، رؤية علَم «حزب الله» يرفرف فوق تمثال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري على حافة بحر بيروت، وفي المكان الذي اغتيل فيه بأكثر من طن متفجرات في 14 فبراير 2005، وهو في طريقه إلى الانتخابات لإدراك أن البلاد كانت أمام ما هو أبعد من استحقاق نيابي.
العَلَم المرفوع «أكد المؤكد»، فـ «حزب الله» نجح في اصطياد أهداف ثمينة أرادها وبالوسائل الديموقراطية هذه المَرة، أي من خلال انتخاباتٍ بقانونٍ اقتاد الجميع إليه لضمان الإمساك بـ «الثلث المعطل» في البرلمان عبر الفوز بـ «كتيبةٍ نيابية» تشكّل قاطرة لتحالفات تمكّنه من التحوّل شريكاً قوياً في السلطة.
فبعدما كان «حزب الله» كسَر التوازنات السياسية في البلاد، بقوّة السلاح في 7 مايو 2008 حين اقتحم بيروت وبعض الجبل لانتزاع «الثلث المعطّل» في الحكومة، ها هو ينجح في 7 مايو 2018، وبوهج التحولات الاقليمية في استكمال عملية التحكم باللعبة السياسية، إضافة الى إمساكه بالإمرة الاستراتيجية كقوةٍ رديفة للدولة وخارج مرجعيتها وكـ «جيش» عابر للحدود.
ويتجلى انتصار الحزب بـ «الأرقام» عبر الحصاد الذي حقّقه بـ «التكافل والتضامن» مع شريكه في «الثنائية الشيعية» رئيس البرلمان نبيه بري، والمتمثل بالآتي:
- الفوز بكامل الحصة الشيعية في البرلمان باستثناء نائب واحد (26 نائباً)، وهو الأمر الذي يشكّل تحكماً بجميع الاستحقاقات التي تحتاج إلى «تصويت ميثاقي»، كتشكيل الحكومات والانتخابات الرئاسية وما شابه.
- القبض على «الثلث المعطل»، أي 43 نائباً وأكثر مما يجعل مفتاح البرلمان في جيْبه. وتتشكل هذه الكتلة «الصلبة» من الحلفاء الخلص لـ «حزب الله» الذين يدينون بالولاء له في سياساته الداخلية والاقليمية.
- ضمان تشكيل أكثرية في البرلمان (65 نائباً) عبر تحالفه مع «التيار الوطني الحر» كلما اقتضت الحاجة، وخصوصاً أن العلاقة بين الطرفين عائدة إلى ما كانت عليه بعد التفاهم، على اعتبار أن الانتخابات كانت «فترة سماح» تقتضيها طبيعة المعركة.
- لعب دور الإسناد في معركة كسْر حصرية رئيس الحكومة سعد الحريري لـ «الزعامة السنية» عبر ضمان فوز نحو عشرة نواب سنّة من خارج عباءة الحريري، وتالياً إضعافه داخل بيئته وفي المعادلة السياسية.
وأولى مؤشرات «الحرب الناعمة» على الحريري بدأتْ حتى قبل إعلان نتائج الانتخابات من خلال كلام «حزب الله» عن تسوية جديدة أو تعديل التسوية التي قد لا يكون فيها الحريري رئيساً للحكومة في مرحلة ما بعد الانتخابات.
وعلمت «الراي» ان مناقشات تدور في أروقة «الثنائي الشيعي» حول الموقف من ترؤس زعيم «المستقبل» الحكومة العتيدة بعدما أصبح في إمكان هذا الثنائي عبر التوازنات الجديدة في البرلمان ترجيح الكفة، إما بسلاح «الميثاقية» وإما عبر تفاهم مع «التيار الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل.
وفُهم أن المداولات ترتبط بما يريده «حزب الله» من هذا الاستحقاق في ضوء أجندته الداخلية والاقليمية، وعلى قاعدة المفاضلة بين إمكان الإتيان بـ «حريري ضعيف» أو إبعاده في تطوّرٍ القصد منه توجيه رسالة قاسية الى المملكة العربية السعودية ومعها الولايات المتحدة شبيهة بما انطوى عليه الانقلاب على حكومة الحريري العام 2011 والإتيان بحكومة برئاسة نجيب ميقاتي.
وكان لافتاً في هذا السياق أن ميقاتي الذي فاز بكتلة نيابية من أربعة أعضاء في طرابلس، سارع أمس إلى تقديم أوراق اعتماده بقوله: «حتماً أنا مرشح لرئاسة الحكومة والموضوع بحاجة إلى تشاور، وإذا كانت هناك حظوظ لوصولي فأنا جاهز لهذه الخدمة».
والأكثر إثارة للانتباه كان تفادي الرئيس بري الردّ على سؤال عن موقفه من عودة الحريري رئيساً للحكومة، رغم إعلانه قبل الانتخابات تأييد هذا الخيار في ردّ على التحية بمثلها عندما تمايَز رئيس الحكومة عن موقف الوزير باسيل في حملته المناهضة لمعاودة انتخاب بري رئيساً للبرلمان.
ورغم أهمية الكلام عن عودة الحريري أو عدمها، فإن الثابت أن اقتحام «حزب الله» للبرلمان بكتلة صلبة وكبيرة ينطوي على قرار بجعل مجلس النواب، وتالياً الحكومة في توازناتها الجديدة، «متراساً» في مواجهةٍ يعتزم «حزب الله» خوضها ضدّ ما يعتبره «توجهات سعودية – اميركية» في لبنان، انسجاماً مع الموقع الاقليمي للحزب كـ «رأس حربة» في المشروع الإيراني.
هذه الخلاصة تعزّز، بطبيعة الحال، ما ذهبتْ إليه كبريات الصحف الغربية التي تعاملتْ مع نتائج الانتخابات النيابية في لبنان على أنها مؤشر على مدى إحكام ايران قبضتها على بيروت، بعدما كانت طهران فاخرت وفي وقت سابق بأنها تحتل بنفوذها أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت.
إزاء هذا الواقع الجديد لم يكن الحريري مُقْنِعاً، في أول إطلالة له بعد الانتخابات، في الحديث عن انتصار لتياره الذي نجح في الاحتفاظ بـ21 مقعداً من أصل 32 كان فاز بها في انتخابات 2009، والذي استمر أولاً في البيئات السنية كبيروت، وطرابلس وعكار والبقاع واقليم الخروب وصيدا.
فالأهمّ في الانتكاسة التي مني بها «المستقبل» هو تسرُّب عدد لا بأس به من نواب السنّة وتراجع الزخم الشعبي للتيار الذي عبّرت عنه نسبة التصويت في معقل الزعامة الحريرية في بيروت التي «قاتَل» رئيس الحكومة من أجل استنهاضها حين جال فيها شارعاً شارعاً.
أما خارج سياق هذا الصراع بخلفياته الاقليمية، فإن صناديق الاقتراع (لم تكن حتى أولى ساعات امس صدرتْ نتائجها الرسمية) أفرجتْ عن علامات فارقة ذات أبعاد تتصل باللعبة السياسية وتوازناتها، ولعل أبرزها:
- رغم احتفاظ حزب رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) بكتلة توازي ما كانت عليه قبل الانتخابات، فإنه فشل في توسيع القاعدة التمثيلية التي أرادها «قوية» وكذراعٍ لمساندة العهد.
- النجاح الباهر الذي حقّقه حزب «القوات اللبنانية» وبقوة سواعده في مضاعفة كتلته ورفْعها من 8 مقاعد الى نحو 16، الأمر الذي سيجعله «رقماً صعباً» في المعادلة السياسية في المرحلة المقبلة.
- ضمان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تسليم «زعامة المختارة» الى نجله تيمور بانتصار فعلي حقّقه عبر الحدّ من الخسائر والاحتفاظ بكتلة وازنة ومتنوعة من 8 مقاعد رغم ما اعتبره جنبلاط – الأب هجمة لمحاصرة زعامته.
بهذه القراءة الاولية لنتائج الانتخابات النيابية، يمكن القول إن لبنان دخل مرحلة تُماشي التحولات الجارية في المنطقة وترسي معادلات جديدة في توازناتها الداخلية وفي وهجها الاقليمي.