كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
يشكّل المقعد النيابي هدفاً لرجال الأعمال والمتمولين. في السابق، كانوا يتسلّلون إلى السلطة بـ«الواسطة»، إلا أنهم التحقوا بـ«الحريريّة» التي كرّست حضورهم العلني بوصفهم «حماة النموذج». هم يبحثون عن شرعيّة ما توفّر لهم الارتقاء من مرتبة «أداة تمويل» إلى مرتبة «ممثل الشعب» وأعينهم شاخصة على المال العام!
تقول «الدولية للمعلومات» إن عدد المتموّلين في مجلس النواب المنتخب عام 2009 بلغ 25 نائباً، وأن هناك 18 متمولاً آخرين سعوا للفوز بمقعد نيابي في الانتخابات النيابية 2018. النتائج تشير إلى دخول نحو 12 متموّلاً جديداً، فضلاً عن خروج عدد من «النواب المتموّلين»، وسقوط بضعة مرشحين متمولين. وفي المحصّلة، يمثّل المتموّلون الذين سعوا للفوز بمقعد نيابي في انتخابات المجلس النيابي لعام 2018 أكثر من ثلث المقاعد. الرقم غير بسيط، ويمكن العثور على التفسير، باستعادة مشهد المجالس في العقود الثلاثة الأخيرة. على مدى هذه السنوات، برزت «مجموعة من الأثرياء الجدد غالبية أفرادها مقاولون حصلوا على عقود مع الدولة فيها الكثير من التنفيعات إن لم يكن أكثر من ذلك، وهم يريدون اليوم تكريس انتفاعهم بالنفوذ من داخل النظام وليس بالواسطة»، بحسب مدير المركز اللبناني للدراسات سامي عطالله.
يثير هذا الواقع الكثير من الأسئلة حول «سر» الشهية المفتوحة لطبقة الأثرياء في الدخول إلى نادي السياسة. هناك فرق بين حاجة رجال الأعمال والمتموّلين إلى أمان سياسي لاستمرار مصالحهم، وبين حاجتهم إلى حماية مصالح قائمة على الانتفاع من المال العام. بين هاتين الحاجتين، يتحوّل بعضهم إلى أدوات تمويلية لأحزاب سياسية وأحياناً لقادة أحزاب، وهم يتشاركون في الدفاع عن خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية والتصدي لخيارات. عملياً، يبحثون عن تبادل مصالح ونفوذ واستغلال وتراكم أموال… والأهم حماية «النموذج». على رغم ذلك، كانت هناك مغريات في قانون النسبية، لا سيما لفئة من المتمولين المنبوذين من زعماء الطوائف التي ينتمون إليها، وربما سمعوا كلاماً كان يُردّد كثيراً عن قدرة المال على شراء مقعد نيابي أو وزاري.
هكذا خيضت معارك طاحنة في بعض الدوائر الانتخابية. خلفيات هذه المعارك، سواء كانت ذات طابع ثأري، أو طابع سياسي، أو مذهبي، لا تلغي الدور التمويلي. على سبيل المثال، كانت هناك معركة في الأشرفية بين الصحناويين: أنطوان الصحناوي (رئيس مجلس إدارة سوسييتيه جنرال بنك) كان يسعى لمنع فوز ابن عمه نقولا الصحناوي (المصرفي والوزير السابق المنتمي للتيار الوطني الحرّ) وهزيمة غريمه الكاثوليكي ميشال فرعون. أنطوان الصحناوي لا يطمح حتى الآن للنيابة. يريد أن يكون «صانع نواب ووزراء» ولاحقاً أحد المنتمين إلى نادي صناعة الرؤساء!
رشّح أنطوان الصحناوي العميد المتقاعد جان طالوزيان. ودفع أموالاً طائلة في معركة انتهت بهزيمة فرعون الممثل التقليدي للكاثوليك في العاصمة والساعي إلى زعامة الكاثوليك في لبنان. وفي الوقت نفسه، أمّن الصحناوي فوز مرشحه (طالوزيان) ولم يتمكن من وضع سد يحول دون فوز خصمه نقولا الصحناوي، نجل المتمول والمصرفي العريق موريس الصحناوي!
واللافت للانتباه في معركة بيروت الأولى سقوط مرشّح التيار الوطني الحرّ، التاجر والمصرفي نقولا شمّاس الذي لم تكن له أي حظوظ أصلاً كما بدا من خلال أكثر من استطلاع أجري قبل الانتخابات، إلا أنه استُعمل كرافعة تمويلية للائحة التيار الحرّ في الأشرفية. هذا المرشّح الراسب أسرّ أمام بعض زملائه، أنه لا ينتمي إلى التيار الوطني الحرّ وأن رئيس التيار جبران باسيل استغلّ أمواله فقط، حتى أنه في أحد المهرجانات الانتخابية الممولة منه، استعجل رئيس التيار الرحيل بحجّة ما حتى لا يستمع إلى خطابه.
في بعض الدوائر كانت هناك مبالغة في تقدير قوّة المال الانتخابي على خلق وقائع جديدة. في كسروان، أنفق الرئيس السابق لجمعية الصناعيين اللبنانيين نعمت افرام، ابن الصناعي المشهور الراحل جورج افرام، ورئيس مجلس إدارة أكثر من 20 مجموعة تجارية، ملايين الدولارات للفوز بمقعد نيابي في معقل الموارنة، في مقابل فوز مرشّح القوات اللبنانية، شوقي الدكاش، بالمركز الثاني في القضاء، بفارق أقل من 700 صوت تفضيلي عن افرام. كذلك فاز رجل الأعمال روجيه عازار الذي يعد من أكبر تجار البناء والرخام والغرانيت.
أما تاجر التبغ سركيس سركيس، الذي لم يحسب يوماً على التيار الوطني الحرّ، فحجز مقعده على لوائح التيار في المتن بسب قدراته المالية الواسعة وقدرته على إقناع رئيس التيار أن لديه قاعدة أصوات كبيرة، إلا أنه لم يتمكن من الفوز بالأصوات التفضيلية على رغم نيل اللائحة الحاصل الانتخابي. علماً أن سركيس كان أبرز ممولي معركة التيار في المتن، وترشيحه تم على حساب قيادي أصيل من التيار هو النائب السابق نبيل نقولا. لكن سقوط سركيس لم يمنع المتمول الآخر الياس بو صعب من الفوز، وهو الذي حرص على إخفاء حجم إنفاقه الفعلي في هذه الدائرة التي تعتبر من «أغنى» الدوائر.
كذلك الأمر في مرجعيون ــــ حاصبيا حيث كان «رجل العمل»، كما سمّى نفسه، المقاول عماد الخطيب، الذي استفاد من عقود بالجملة مع الدولة اللبنانية في وزارة التربية، ينافس لوائح «الأمل والوفاء» من فوق الطاولة ويرسل الإشارات للرئيس نبيه بري من تحت الطاولة. محاولة الخطيب الفوز بالمقعد السنّي في مواجهة النائب البعثي قاسم هاشم لم تنجح على رغم إنفاقه ملايين الدولارات.
في جزين، كان لافتاً للنظر أن رجل المال والأعمال أمل أبو زيد، الذي يتردّد بأنه واحد من عرّابي اتفاقات النفط في لبنان، لم تسعفه الأموال وخسر بالأصوات التفضيلية أمام زميله في التيار زياد أسود. كيف اختار أهل جزين المحامي أسود وفضّلوه على أبو زيد على رغم تفاوت القدرات
في زحلة، القصة تكرّر نفسها. آل سكاف بقدراتهم المالية لم يتمكنوا من جمع الحاصل الانتخابي الذي يؤمن لميريام سكاف وراثة مقعد زوجها الراحل إيلي سكاف. النائب نقولا فتّوش وإخوته، أصحاب الكسارات والمرامل ذوي الشهرة والنفوذ المالي والسياسي… سقطوا أيضاً. أسعد نكد، الذي يملك امتياز كهرباء زحلة والذي ألغى كل مولّدات الأحياء وجمعها بمولّد عملاق أطلق حملة انتخابية تحت شعار «صوّت ع ضو» لم يتمكن من الفوز أيضاً.
في المقابل، دخلت مجموعة جديدة من المتمولين إلى البقاع. ميشال ضاهر، صناعي يملك مصانع «ماستر» لرقائق البطاطا، وعليه شبهات، (راجع الأخبار)، لكنه فاز بالمقعد إلى جانب المتمول سيزار معلوف. هنري شديد فاز أيضاً، وصاحب أهم مستشفى في البقاع محمد القرعاوي المتقلب بين تيار المستقبل والتيار العروبي الذي يمثله عبدالرحيم مراد.
في دوائر أخرى، كان هناك مرشّحون لا عمل لديهم سوى التمويل. لم نسمع صوتهم مرّة في المجلس النيابي، وإن سُمع، فهو غير واضح أو مشوّش. الكثير من رجال الأعمال رفضوا التخلّي عن مركزهم السياسي في المجلس النيابي وقاتلوا لأجله. أنور الخليل يعدّ مثالاً قوياً على ذلك (تمويل انتخابات نيابية وبلدية بشراكته مع زملاء متمولين آخرين). نعمة طعمة، رجل الأعمال والمقاول في السعودية الذي لا يزال يعمل بعقد حصل عليه من ولي العهد محمد بن سلمان، يموّل لوائح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط منذ تسعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. هذه المرّة دخل معه شريك جديد في «البزنس السياسي» هو المتمول أنيس نصّار الذي صار عضواً في كتلة «القوات» واحتل مقعد عاليه الأرثوذكسي.
في بيروت، هناك تاجر الرخام والبلاط نزيه نجم. سبق أن حصل على قرار من مجلس الوزراء بفرض رسم جمركي حمائي على الواردات من الأصناف التي يبيعها. نجم وميشال ضاهر هما الوحيدان اللذان فازا بالرسم الجمركي الحمائي، وفوزهما في النيابة هو استكمال لهذا النفوذ في مفاصل «النموذج».
في الشمال، نماذج كثيرة لمتموّلين صاروا سياسيين. يتربع الرئيس نجيب ميقاتي على رأس هؤلاء. في التاريخ الحديث للبنان في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، أي انتقال «مركز السلطة إلى رئاسة مجلس الوزراء وتسرّبه تدريجاً إلى مجلس النواب ونشوء ما يسمّى ترويكا» على حدّ تعبير الكاتب فواز طرابلسي في كتابه «الطبقات الاجتماعية في لبنان: إثبات وجود»، دشّن رفيق الحريري «عهداً غير مسبوق من التماهي بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية».
شهدت المجالس النيابية تحولات هامّة لجهة التركيب الاجتماعي، إذ تدهورت نسبة الزعامات من ملاك الأراضي لمصلحة رجال الأعمال. المسألة ليست سقوط مرشّح متموّل أو فوزّه، بل هي قصّة شراكته مع قوى السلطة في إدارة مصالح المجتمع. فالمحرّك الاساسي هو «الاستفادة من المجلس النيابي سواء عبر اعتبار المقعد النيابي هو معبر الدخول إلى نادي السياسيين، أو اعتبار وجودهم في السلطة التشريعية مفيداً للعمل الخاص» بحسب طرابلسي. وهذا الأمر ينطبق على قدامى المتمولين في المجلس وعلى الأثرياء الجدد فيه. «في السابق كان يتوافر للبرجوازية اللبنانية كل ما تريده عبر النظام الذي روّج له ميشال شيحا. فقد كانت هذه البرجوازية تعمل في نظام ليبرالي ولديها حريات التصرف الواسعة في الملكية… وهذا الأمر كان جزءاً من الإنفصال مع سوريا ونزوح البرجوازية السورية إلى لبنان. هذا الأمر يثير سؤالاً أساسياً عن رغبتهم في الإمساك بالسلطة السياسية طالما أن النظام الاقتصادي وفّر لهم الحماية والضمانات الكافية لاستمراريتهم». فمصالح البرجوازية اللبنانية، بحسب كتاب طرابلسي، كانت «تتسلل عبر الحزبيات التقليدية وإتكالها على الارتباط عموماً بالزعامات والحزبيات الطوائفية التي احتكرت الحياة الحزبية والتمثيل السياسي…».
السبب، في رأي سامي عطالله، ان هناك مجموعة ثانية من البرجوازية ظهرت بعد الحرب. هي في غالبيتها مجموعة مقاولين استفادوا من عقود مع الدولة اللبنانية ولديهم منافع واستفادة واسعة. «اليوم هذه المجموعة ترى أن الدفاع عن مصالحها يستلزم التواجد في صلب النظام. الهدف الاستمرار في الانتفاع». والأسوأ من ذلك، أن هؤلاء «يطالبون اليوم بالحصول على مقعد نيابي باسم الطائفة مع أن هدفهم الفوز بالعقود. نلاحظ أن الشركات التي كانت صغيرة تكبر ولو انكشفت السرية المصرفية لتبدى حجم التحويلات والحسابات التي كبرت أيضاً. العامل الأساسي هناك هو الربح والمصالح المالية. يجب أن يُدرس الأمر بشكل أعمق، لكن اللافت أن أياً من هؤلاء المرشحين يصنّف نفسه أو يقدّم خطاباً يدافع فيه عن برنامج اقتصادي اجتماعي وسياسي».
هكذا يبدو أنه ليست هناك وصفة واحدة لسقوط المتمول المرشّح إلى المجلس النيابي أو فوزه. فإلى جانب قدرته التمويلية، هناك عوامل أخرى مثل طبيعة النظام الانتخابي التي ساعدت فؤاد المخزومي على الفوز اليوم على رغم تكرار محاولاته السابقة وإنفاقه ملايين الدولارات، إلا أن هذا العامل لم يكن مساعداً في نماذج أخرى. كذلك هناك شكل المعركة وتوزّع القوى فيها، نوعيّة العمل الذي يقوم به رجل الأعمال من صناعة أو تجارة أو تأمين أو صيرفة أوغيرها. «فعلى سبيل المثال كان هناك تجاوب أكثر مع نعمة افرام الذي لديه استثمارات كبيرة يعمل فيها عدد كبير من الأجراء، ولديه نظام مساعدات اجتماعية ممنهج ومؤسساتي. ساعده في هذا الأمر، كما ساعد غيره من المرشحين المتموّلين، أن الصوت التفضيلي يغري المرشّح على إنفاق الأموال لأنه يترك انطباعاً بأن الإنفاق يصبّ في مصلحته الشخصية بدلاً من مصلحة لائحة بكاملها، علماً أن القانون الحالي أعطى سقفاً مالياً مرتفعا نسبياً لكل لائحة. لكن المال ليس كل الأدوات المستعملة، فهناك معارك خيضت بالتمويل، وأخرى بالزبائنية وغيرها بالنعرات الطائفية» يقول عطالله.
الثابت في كل هذا المشهد، هو أن المتموّلين يبحثون عن شرعية للارتقاء من رتبة أداة تمويل إلى ممثل للشعب.
إلى جانب رجال الأعمال الذي ينوون امتهان السياسة، هناك الكثير من السياسيين الذي امتهنوا السياسة للحصول على المال، وهناك فئة المتموّلين السابقين الذين ارتكزوا على حضورهم في السلطة لتعزيز نفوذهم المالي. تاريخياً، إن خريطة البزنس السياسي كانت تقوم على مهنة المحاماة. بحسب فواز طرابلسي، فإن الطبقة البرجوازية اللبنانية كانت تملك حضوراً سياسياً «تقليدياً» عن طريق مهنة المحاماة. «كان مكتب إميل إده للمحاماة وكيلاً للمفوضية السامية الفرنسية وشركات النقل البحري والتأمين الفرنسية وشركة مياه بيروت التي يملكها آل صبّاغ. وبشارة الخوري، الذي تدرّب في مكتب إميل إده، كان وكيل بنك فرعون ــــ شيحا والمصالح المصرية والسعودية، وأبرزها «البنك المصري لسوريا ولبنان» الذي تأسس عام 1929 برؤوس أموال عربية وبريطانية. ولما تولى الخوري الرئاسة صار مكتب المحاماة تابعه، وقد تولاه ابنه خليل، ممثلاً للشركات الفرنسية ذات الامتياز. أما رئيس مجلس النواب، حبيب أبو شهلا، فكان ممثلاً لشركة التابلاين الأميركية، وعبدالله اليافي، أحد رؤساء الوزراء في تلك الفترة، وكيلاً لبنك سوريا ولبنان، والنائب والوزير حميد فرنجية وكيلاً لمجموعة «سيرياك» المذكورة أعلاه وهلم جرا.