كتب سامر فرنجية في صحيفة “الحياة”:
أجريت الانتخابات النيابية اللبنانية يوم الأحد الفائت، وهذا بعد انقطاع تسع سنوات. وعلى رغم قانون الانتخاب النسبي، والذي شكّل مطلباً للقوى الإصلاحية منذ أكثر من خمسين عاماً، لم ينتج الاستحقاق الانتخابي أي تغيير في المسار السياسي. فالجماهير، كالعادة، لم تلتقط هذه الفرصة التاريخية، وتركت القوى الاعتراضية يتيمة تبحث عن صوت تفضيلي من هنا أو هناك. لم ينتج النظام النسبي تغييراً، بل بالعكس، فتح المجال لكي يعزز «حزب الله» وصايته على النظام اللبناني، وهي وصاية لم يعد يحدّها اليوم إلا التركيبة الطائفية اللبنانية. فجاءت النتائج لتكرّس التحوّلات السياسية في لبنان والمنطقة وتترجم الانتصارات العسكرية إلى مكاسب انتخابية، والقتلى إلى أصوات تفضيلية. أجريت الانتخابات يوم الأحد الفائت، ولكن نتائجها كانت قد حسمت بالدم في حلب والغوطة وبيروت.
في هذا اليوم، حقق العهد الجديد مكسباً إضافياً لمجرّد عودة العمل بالانتخابات بعد انقطاع طويل وإتمام العملية من دون شوائب تقنية تذكر. وعلى رغم الانخفاض البسيط في نسب الاقتراع، فهي لم تختلف عن نسب المشاركة في الانتخابات التي كانت تُجرى تحت الوصاية السورية. فالمعركة الانتخابية لم تكن معركة رأي عام، بل انحصرت بين ماكينات انتخابية تتنافس من خلال تحالفات على «الحواصل» وتكتيكات على «التفضيلي». فلم تشهد هذه الانتخابات أي سجال سياسي لأن حسم السجالات، بخاصة حول سلاح «حزب الله»، كان شرطاً للانتخابات وليس إحدى مسائلها. فالذي جرى يوم الأحد الفائت لم يكن انتخابات فحسب، بل عملية تصويت هدفها الأساسي تطبيع السلاح وسحبه من الحيز العام.
ومع مرور يوم الأحد، أصبح من الممكن اعتبار أننا دخلنا مرحلة وصاية «حزب الله»، وهي وصاية لم تعد حتى أكثرية نيابية وهمية لقوى سياسية منتهية الصلاحية تعرقلها. فلم ينتصر الثنائي الشيعي على منافسيه الانتخابيين فحسب، بل انتصر على القانون النسبي بحد ذاته. استطاع «حزب الله» رفع نسب الاقتراع في مناطق نفوذه ومعها نسب التصويت للوائحه إلى درجة يتحوّل بها النسبي إلى المطلق، ليكتسح كافة المقاعد الشيعية، معلناً أن مناطقه ليست عصية على معارضيه فقط، بل على النسبية أيضاً. ومع هذا الاكتساح، انتهت الآمال التي كانت تبنى تارة على تململ مزعوم لقواعد الحزب وتارة أخرى على إمكان تسلل معارضين ملتوين، كاليسار، إلى مناطق الحزب.
هنا تجب مواجهة الحقيقة المرّة: أن «حزب الله» لن يواجه بالانتخابات فحسب، بل أنّه لن يتعايش والديموقراطية اللبنانية الهشة. فيوم الأحد الفائت، أجريت انتخابات في لبنان، قد تكون الأخيرة.
في هذا اليوم، لم يرض «حزب الله» بأن ينتصر وحده، بل أراد مشاركة بشار الأسد في نصره، حيث قدّم له كتلة نواب ستطلق دورياً خطابات مؤيدة لسيادة الرئيس، هذا إن لم يُدع إلى جلسة افتتاح أعمال المجلس. ولن يرضى الحزب الحاكم بمجرد وجود كتلة داعمة منظومة القتل البعثية، بل أصرّ على انتخاب جميل السيد، مع أكثر من ثلاثين ألف صوت تفضيلي ليدخل البرلمان متصدراً دائرته الانتخابية. الإهانة المنطوية في تلك انتخاب لم تكن هفوة. التفوق الانتخابي ليس كافياً، بل أصبح إذلال الخصوم جزءاً من منظومة الحكم. فالحالة التي يرمز إليها جميل السيد محمولاً بعشرات الآلاف من الأصوات التفضيلية هي ما ينتظر كل من سيتجرأ على معارضة الحزب بعد اليوم. ففي هذا الأحد الفائت، تم تأديب اللبنانيين لسنوات عدة، وهذا من خلال العملية الانتخابية الديموقراطية.
وفي هذا اليوم، بدا سياسيو لبنان وكأنهم هواة يتنافسون على دورهم وحجمهم ضمن منظومة «حزب الله». فلم يعارض نصرالله صعود القوات اللبنانية ومنافستهم الجدية لحليفه العوني. فالمنافسة عند القوى المسيحية تبقى مضبوطة بإغراء رئاسة الجمهورية التي تشكّل حدود أي اعتراض على السلاح. أما الحليف السني، فلم يقبل «حزب الله» استسلامه فحسب، بل أراد تحويله إلى موضوع لدرس يتعدى حدود لبنان. فبات لـ «حزب الله» ممثل سني في كافة مناطق وجود تيار المستقبل، ليعلن انتهاء حصرية تمثيل السنة بسعد الحريري. وهذا ما لم يكن صعباً على «حزب الله» فعله، بعد تراكم انهيارات وتناقضات ومساومات هذا التيار. فبات جمهوره مرغماً على محاسبته، ومحاسبة ازدواجية خطاب المواجهة من جهة، والتنسيق مع «الحاج وفيق» (صفا) والترتيبات مع «الصديق جبران» (باسيل) من جهة أخرى. أما الخصوم العلنيون لـ «حزب الله»، كفارس سعيد أو أشرف ريفي، فتم إقصاؤهم على يد حلفائهم القدامى. فأخذ انهيار ١٤ آذار طابعاً قربانياً، قابله «حزب الله» بانتخاب جميل السيد.
في يوم الأحد الفائت، بات واضحاً أن «حزب الله» في مكان وجميع القوى السياسية في مكان آخر، الأول يدير انتخابات، في الوقت الذي تتنافس القوى السياسية ضمن حدوده.
وفي أصغر دائرة في لبنان، في الضفة المسيحية لعاصمته تحديداً، كانت هناك انتخابات مختلفة تخاض بين أحزاب مسيحية صغيرة وممثلين للمجتمع المدني. فأظهر استحقاق الأحد الفائت أنه ليس من قوى اعتراض مدنية في لبنان ذات فعالية انتخابية، وتبين أن هناك مرشحين مدنيين أكثر مما يوجد ناخبون مدنيون. لكن قانون الانتخاب ترك مجالاً صغيراً لتلك القوى بالظهور. ففي أصغر دائرة انتخابية، مع أدنى نسبة اقتراع وأدنى حاصل، نجحت القوى المدنية بأن توصل مرشحة إلى البرلمان، عدد أصواتها لا يتعدى عدد الدراجات النارية التي أطلقها نصرالله يوم الإثنين في شوارع بيروت. في هذه الدائرة الصغيرة، عاش بعض اللبنانيين حلماً مفاده أن السياسة يمكن أن تكون مدنية، تتواجه فيها مجموعات من الشبان مع أضعف الأحزاب، وتنتصر عليها. وفي هذا اليوم، دارت انتخابات في بعض من شوارع بيروت خارج أي سياق سياسي. نظر «حزب الله» إلى تلك القوى الصاعدة بتحبب لكونها فهمت، من دون الحاجة إلى تأديب، حدود ممارستها السياسية.
أجريت الانتخابات يوم الأحد الفائت، ولنهار واحد. أراد اللبنانيون الاعتقاد بأن الانتخاب ما زال أداة فعالة في لبنان. لكن هذا النهار انتهى، وأطلق نصرالله دراجاته النارية ليذكر الجميع بأن يوم العطلة انتهى.