IMLebanon

المأزق الإيراني الأخير

كتب إبراهيم الزبيدي  في صحيفة “العرب” اللندنية:

بعد كل الذي حدث، والذي سيحدث، مازال المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي وأعوانه العسكريون والمدنيون لا يقرأون الرسالة الجديدة المرسلة إليهم، لا فقط من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بل من حكومات وشعوب عديدة أخرى اختصها النظام الإيراني بشظايا من عدوانيته وغروره وتعاليه وعناده وسوء نواياه.

وبالرغم من وضوح الرؤية لنهاية الطريق الذي يسيرون عليه فهم مازالوا غير عازمين على أن يعقلوا، ويجنحوا للسلم، ويعتذروا لشعبهم وشعوب غيرهم، عما تسببوا به من سفك للدماء، طيلة السنوات السود الماضية. ومازالوا غير عازمين على أن يكتفوا بما جنوه على أنفسهم، من أول أيام حكمهم وحتى اليوم، من صفعات وعقوبات وانتكاسات. وأن يتجنبوا المزيد الذي ينتظرهم منها، قبل فوات الأوان.

ويتناسون أن العنجهية الفارغة لم تجلب لغيرهم من الحكام الحمقى والمجانين ولعوائلهم وشعوبهم وشعوب المنطقة كلها، وربما شعوب العالم البعيدة، أيضا، سوى خراب البيوت. فلا خلاف، هذه المرة، على أن الرئيس الأميركي حشرهم في الزاوية.

فقد منحهم مهلة ثلاثة أشهر للجلوس على طاولة التفاوض، من جديد، لتصحيح بنود الاتفاق السابق، وإدخال تعديلات جديدة عليه مشددة ومؤكدة تمنعه من مواصلة التلاعب والغش في مسألة التجارب النووية. وتجبره على التخلي عن أحلام تركيع الكبار، أسوة بحليفه الكوري كم جونغ أون.

مع العلم بأن أي تراجع لا بد أن يجر إلى تراجعات، وأي تنازل لا بد أن يقود إلى تنازلات، حتى يأتيَ اليوم الموعود، ويرحل. فبعد الملف النووي لا بد أن يُفتح ملف حقوق الإنسان الإيراني وملف تمويل الإرهاب وملف نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وما خفي كان أعظم.

أما إذا كابر النظام الإيراني، وركب رأسه وتحدّى هذه المطالب الأميركية التي هي، في الوقت نفسه، مطالب أوروبية أيضا ولكنها مغلفة بالسلوفان، وإذا ما أقدم على استئناف العمل في برنامجه النووي، كما هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام، فسيجرُّ ذلك عليه وعلى شعبه وعلى المنطقة كلها ما وصفه ترامب بأنه (شيءٌ ما).

وفي مواجهة مأزق خطير وخطير جدا من هذا الحجم، ومن هذا النوع خرج المرشد الأعلى ليسخر من جهود روحاني الرامية إلى الاستمرار في الاتفاق مع الدول الأوروبية الثلاث، دون الطرف الأميركي، وليقول، وفقا لما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “لا أثق بهذه البلدان الثلاثة، لا تثقوا بها أنتم أيضا. إذا أردتم عقد اتفاق فلنحصل على ضمانات عمليّة، وإلا فإنَّ هؤلاء سيفعلون جميعا ما فعلته أميركا”. واعتبر سبب معارضة أميركا لنظامه هو أن “أميركا كانت مهيمنة بشكل كامل، وجاءت الثورة الإسلامية فحجَّمتها”.

وتعزيزا لخطاب المرشد علي خامنئي ثار الدم الحامي في عروق نواب الحرس الثوري فتوجهوا صارخين إلى المنصة، وأضرموا النار في العلم الأميركي، وهتفوا بموت أميركا، وتوعدوها بجهنم وبئس المصير. والحقيقة أن الله حين يغضب على شعب من شعوب الدنيا البائسة، مثل شعوبنا، يبتليه بهذا النوع من الحكام الذين يختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يعقلون، ولا يرون الصراط المستقيم، ولا يحبونه، ولا يقدرون عليه.

من عام 1979، تاريخ وصول آية الله الخميني إلى طهران، و“المجاهدون” يتصايحون “الموت لأميركا” و“الموت لإسرائيل”، فلم تمت أميركا، ولم تمت إسرائيل، بل حدث العكس. عاشت أميركا حتى جاءهم رئيس أميركي شديد القوى، بعد أربعين عاما، ليَشدُد الحبل على رقابهم وهم لا يشعرون، وحتى تندم إسرائيل على صمتها عن وجودهم على حدودها فتدك قواعدهم في سوريا وهم ساكتون.

شيء واحد صدق فيه خامنئي هو اقتناعه بأن الدول الأوروبية التي تجرُّ ناعما مع حسن روحاني لا تختلف عن أميركا في موقفها من النظام كله في النهاية، ولكنها تحاول خنقه بقفازات من قطيفة ومن حرير. وبكل الحسابات وبكل المقاييس يُمكن اعتبار الموقف الأميركي الجديد هو مأزقَ النظام الإيراني الأخير.

فترامب، وهو محاصر بالكثير من المتربصين والمعارضين والشامتين، محكوم عليه بالسير على طريق الألغام الإيراني حتى النهاية. وليس أمام نظام الملالي في طهران سوى خيارين، كلاهما مميت. فإن تَجبَّر سقط، وإن تهاون وتنازل وتذلل كان، أيضا، من الساقطين. فأمامه، مهما فعل وأينما استدار، صخرة أكبر منه وأخطر.

فإما أن يتوقف أمامها، ويرضخ بالتي هي أحسن، ويتخلى عن ميليشياته وجواسيسه ويغادر العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويعود، طائعا إلى عقر داره، ليواجه شعبه الغاضب العنيد، وإما أن يناطحها، كما فعل قبلَه أباطرة كثيرون، فانتهى بعضُهم على مشنقة، وبعضٌ آخر في أحد مجاري المياه الآسنة، وآخرون برصاص جماهيرهم الغاضبة التي شربت من غبائهم وغرورهم وتخلفهم الكثير.