كتبت صحيفة “العرب” اللندنية:
يشكل عنوان الاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل، مفتاح فهم السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان وسوريا، فالكيان الإسرائيلي يشهد اليوم طفرة اقتصادية ونموا غير مسبوق في تاريخ الدولة العبرية، إذ بلغ مستوى النمو حوالي 8 بالمئة، فيما يشهد قطاع السياحة نشاطا متناميا في الوقت الذي تعاني الدول العربية على العموم ولا سيما تلك المحيطة بالدولة العبرية من كوارث أو أزمات سياسية واقتصادية وتنموية ليست خافية على أحد.
ويكفي أن نشير إلى الحرب التي عانت وتعاني منها سوريا وكل ما طال هذه الدولة من تهجير وقتل وتدمير، فضلا عن الإرهاب الذي طال لبنان ومصر والأردن مع ما سببت الأزمة السورية من تداعيات على هذه الدول وغيرها. وفي المقابل فإنّ إسرائيل كانت تحقق تقدما سياسيا في محيطها، وتتلقى دعما أميركيا تُرجم بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفرضت الحكومة الإسرائيلية علنا وفعليا رؤيتها لقضية السلام مع الفلسطينيين من خلال القضاء على شروط وقواعد التسوية في ظل صمت دولي لهذا المسار إن لم نقل قبولا أو دعما له.
لم تتعرض إسرائيل خلال سنوات الأزمة السورية لأي تهديد أمني أو استراتيجي، فيما كانت المواقع العسكرية السورية والإيرانية، فضلا عن أهداف تابعة لحزب الله في سوريا عرضة لضربات إسرائيلية منذ سنوات ولا تزال مستمرة، من دون أن تلاقي هذه الضربات أي رد جدي، بل ثمّة تنسيق غير خفي بين الحكومة الإسرائيلية والقوات الروسية على هذا الصعيد، يقوم على أنّ ما تراه إسرائيل تهديدا لأمنها يمكن أن تبادر إلى استهدافه وبالتنسيق مع القوات الروسية تفاديا لأي اصطدام غير محسوب بين الطرفين.
لبنان ليس خارج هذه المعادلة، فها هي إسرائيل ترسخ معادلة الأمن على حدودها، وتثبت شروطها الإستراتيجية التي تقوم على أنّها مطلقة اليد في تنفيذ ما تشاء تجاه القدس والفلسطينيين
كل الدول المحيطة بإسرائيل كانت ولا تزال عرضة للتوتر والحروب وللإرهاب، فيما بقيت الدولة العبرية بمنأى عن كل ذلك، انفجرت على كل الأراضي السورية صراعات ومواجهات وبقيت الحدود مع الجولان المحتل مناطق آمنة ومستقرة، لم توفر قذائف النظام السوري وحلفائه من إيران أو الميليشيات التابعة لها، أيّ مدينة أو بلدة في سوريا، ولم توفر عشرات الآلاف من المدنيين، لكنها في المقابل كانت شديدة الانضباط والهدوء تجاه كل الضربات الإسرائيلية التي طالتها.
هذا ما هو أمام إسرائيل اليوم؛ عدو ملتزم بحماية حدودها، لا يمكن أن يقع في خطأ السماح بدخول مجموعات فدائية إلى إسرائيل، ولا يمكن أن يطلق أي صاروخ فعلي نحو العمق الإسرائيلي، ويكتفي بإطلاق التهديدات اللفظية التي باتت من شروط حماية الوضع القائم والذي تتفهمه إسرائيل باعتباره عنصرا أساسيا للمحافظة على المعادلة القائمة التي تناسب حكام الدولة العبرية اليوم.
على هذا الأساس من الحسابات الإسرائيلية يمكن فهم الخطوات المستقبلية التي يمكن لإسرائيل أن تعتمدها أو تنأى بنفسها عنها في المقلب الآخر من حدودها الشمالية، فما دامت إيران وحزب الله ملتزمين بشروط الاستقرار على حدودها كما تراه إسرائيل نفسها، فإنّ ذلك سيكون بوليصة تأمين لكلا الطرفين من أيّ خطر إسرائيلي على وجودهما ونفوذهما سواء في لبنان أو في سوريا، على أنّ ذلك لا يمنع من أنّ التفسير الإسرائيلي للنفوذ الإيراني يرتبط بألا يشكل أي احتمال خطر على الأمن الإسرائيلي، إذ لا يضير إسرائيل أن تقاتل إيران وميليشياتها دفاعا عن نظام بشار الأسد بكل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، ولا أن يسيطر حزب الله على الدولة اللبنانية بمفاصلها الأمنية والعسكرية والسياسية.
ما يهم إسرائيل هو التزام الطرفين بقواعد وشروط الأمن الإسرائيلي على الحدود، وحماية الاستقرار على ضفتيها، وهذا ما يفسر أنّ إسرائيل التي افترضت وجود خطر محتمل من بعض القواعد الإيرانية في سوريا، قد قامت بتوجيه عدة ضربات صاروخية تدميرية لهذه القواعد، وهي ضربات ستستمر فيما لو استمرت إيران في تعزيز وجودها العسكري في مناطق تعتبرها إسرائيل مدى حيويا لأمنها الاستراتيجي، أما إيران التي لا تقع في سلم أولوياتها مواجهة إسرائيل، فهي لن تقوم بأي رد فعل عسكري يتناسب مع الضربات التي تتلقاها قواتها أو ميليشياتها في سوريا، فالقيادة الإيرانية منهمكة اليوم في حروب أخرى وأولويات تتصل بالخارطة العربية من جهة، وبحماية الاتفاق النووي الذي من أول شروط بقائه المحافظة على حد معقول من علاقاتها مع أوروبا وروسيا من جهة أخرى، وهذا لا يتم إن ردت إيران على أيّ ضربة إسرائيلية في سوريا، طالما أنّ الدول الأوروبية ترى في هذه الضربات حقا مشروعا لحفظ أمنها.
إسرائيل كانت تحقق تقدما سياسيا في محيطها، وتتلقى دعما أميركيا تُرجم بنقل السفارة الأميركية إلى القدس
وهكذا فإن لبنان ليس خارج هذه المعادلة، فها هي إسرائيل ترسخ معادلة الأمن على حدودها، وتثبت شروطها الإستراتيجية التي تقوم على أنّها مطلقة اليد في تنفيذ ما تشاء تجاه القدس والفلسطينيين، فيما تبقى صواريخ حزب الله في مخابئها من دون أي استعداد للانطلاق، فيما طريق القدس تبقى بعيدة.
ويبقى أنّ لبنان يستعد لعودة مقاتلي حزب الله من سوريا استجابة لدعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لانسحاب كافة الميليشيات من الأراضي السورية، وهي دعوة مستجابة في أغلب الظن من قبل حزب الله إن لم يكن في القريب العاجل فإنها ستتم في المدى المنظور، وعودة هؤلاء إلى لبنان لن تكون في سياق استكمال تحرير القدس، بل لحماية نفوذ ودور حزب الله الذي سيترسخ، في جوهره، على قاعدة فصل لبنان عن محيطه العربي، وهذه القوة لن تكون وظيفتها العسكرية الدفاع عن لبنان في مواجهة المؤامرات العربية، بل هي وظيفة ستشكل في المدى المستقبلي أحد مبررات استمرار السلاح في يد حزب الله.
وإسرائيل التي تدرك أنّ ضمانات أمنها لا تقررها فقط القرارات الدولية أو التفاهمات، تدرك أنّ أمنها يترسخ من خلال الشروخ التي طالت البنية العربية في دوائرها اللبنانية والسورية، كما تدرك أنّ أولوية حزب الله اليوم هي السيطرة على لبنان، والطريق الطويل لتحقيق السيطرة الكاملة مشروط باحترام الأمن الإسرائيلي.
غاية حزب الله لم تعد تحرير القدس ولا محاربة الدول الاستعمارية، ولا إنشاء الجمهورية الإسلامية في لبنان أو في سوريا والعراق، وإنما حماية النفوذ الإيراني هي الغاية وذلك طريقه واضح لا لبس فيه وهو الطريق الذي يؤدي إلى السيطرة والتأثير في مراكز القرار في الدولة، وفي لبنان ها هي الطريق التي يشقها حزب الله السيطرة والاحتماء بالدولة اللبنانية ومؤسساتها، والأهم من ذلك تذكير إسرائيل ومن يعنيهم الأمر أنه مصدر حماية الاستقرار في جنوب لبنان وشمال إسرائيل وللقول هذا ما لا يستطيعه أحد غيري.