كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
بخلاف الانطباع الذي ساد عقب ما أدلى به وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو من مواقف قوية، لا بل عنيفة، تجاه إيران والذي دفع بالبعض الى الاستنتاج بأنّ الإدارة الأميركية تحضّر مسرح الشرق الأوسط للحرب، فإنّ التدقيق بما نطق به بومبيو يُظهر أنها نقاط للضغط وليست إبداء إعلان استراتيجية أو حتى خطة عمل. لكنّ إعلان بومبيو يؤشر الى مرحلة ضغط صعبة وكبيرة وصولاً الى الهدف المنشود وهو إلزام طهران بإنجاز تسوية سياسية مع واشنطن حول ساحات الحرب المشتعلة في المنطقة، أو بمعنى آخر دفع طهران الى الانخراط في اتّفاقٍ سياسيّ كامل مع واشنطن يلحظ مصالح الطرفين وهو ما لم يؤمّنه الاتّفاق النووي الذي تمّ توقيعه بسبب عدم رغبة إيران رغم «التحرش» الديبلوماسي الأميركي بالفريق المفاوِض الإيراني لهذه الغاية يومها.
حتى الآن ما تزال القيادة الايرانية ترفض ايّ تفاوض سياسي مع الادارة الاميركية حول رسم حدود النفوذ، لكنّ ديبلوماسيّين أميركيين في واشنطن ينقلون عن مسؤول أميركي رفيع المستوى إقتناعَه بأنّ حجم الضغوط المتوقّع سيُجبر طهران على الرضوخ في نهاية المطاف.
والرفض الإيراني نابع من أنّ طهران نجحت في فرض نفسها قوة إقليمية كبرى بجهودها الذاتية وبلا مساعدة أحد وانّ الوصول الى هذا الحجم تطلّب منها اثماناً هائلة دفعتها من اقتصادها وقدراتها الذاتية، وبالتالي فإنّ القبول بمشاطرة الولايات المتحدة الاميركية بعضاً من مكاسبها الاقليمية لقاء الاعتراف الأميركي بدورها لا يبدو عادلاً.
حتى الآن لا يبدو الرئيس الاميركي قد نجح في دفع إيران للتقدّم خطوة واحدة الى الأمام، وهو الذي يستعدّ للانتخابات النصفيّة في الخريف المقبل فيما ملف التحقيقات الداخلي ما يزال يلتف حول عنقه.
لكنّ ترامب يعوّل على تراجع الدول الاوروبية عن موقفها الداعم للاتّفاق النووي في ظل العقوبات الاميركية الجديدة والتي ستشمل شركات أوروبية عملاقة مثل «توتال» الفرنسية في حال استمرّت في عملها وفق العقود التي أبرمتها.
واشنطن تراهن على الوضع الاقتصادي المتراجع الذي تعاني منه إيران، لكنّ الارتفاع الحاصل في اسعار النفط سيساعدها على تعويض تقلّص الإيرادات الإيرانية جراء العقوبات الجديدة.
لكنّ معارضي ترامب لخطة الضغط التي يمارسها والتي هي نسخة منقّحة عن الخطة التي نفّذها مع كوريا الشمالية يعتقدون أنّ الرئيس الاميركي القليل الخبرة في شؤون المفاوضات الخارجية يرتكب أخطاء قاتلة. ففيما الحسابات الاميركية ترتكز على درس هويّة خليفة المرشد آية الله السيد علي خامنئي بدا وضعُ الرئيس الإيراني حسن روحاني ومعه التيار الإصلاحي في حال لا يُحسد عليها. ذلك أنّ إشراف روحاني على الملف الاقتصادي للبلاد منذ أن اصبح رئيساً عام 2013 كان فاشلاً وهو لم يتمكّن من الوفاء بوعوده التي أطلقها، اضافة الى رهانه على نتائج الاتّفاق الموقّع مع الولايات المتحدة الاميركية والدول الست، والذي كان يقضي بإعادة ما يقرب من 150 مليار دولار اميركي الى إيران وهو ما جمّده ترامب وأبقاه في المصارف الأميركية.
ولذلك أخذ تأثير التيار الإصلاحي يتراجع لمصلحة ازدياد نفوذ الحرس الثوري، ولكنّ ترامب يسعى الى توظيف الضعف الاقتصادي والسياسي الذي يعاني منه النظام الإيراني لمصلحة إرغامه على العودة الى طاولة المفاوضات في الظاهر حول اضافة بنود جديدة على الملف النووي ولكن فعلياً لإنجاز تفاهم سياسي سرّي حول الشرق الاوسط.
لكنّ تصاعد نفوذ الحرس الثوري يقلّل من احتمالات عودة طهران الى طاولة المفاوضات، خصوصاً أنّ ترامب يفكّر بإشراك دول عربية في المفاوضات.
فطهران تدرك جيداً أولاً أنّ الحرب غير واردة في المرحلة الحالية. ولا الولايات المتحدة الاميركية تخطط لذلك ولا إيران ترغب بها. وهذا ما انعكس هدوءاً بين حلفاء البلدين في العراق على رغم الحملات الانتخابية التي عادة ما تكون حامية.
والأهم أنّ مضيق هرمز بقي هادئاً وطبيعياً وهو الذي يؤدي دور احد الممرات البحرية الاساسية لنقل النفط.
وطهران تعلم جيداً ثانياً انّ الحرب بالواسطة تعني الفوضى والتي أثبتت المحطات التاريخية انّ نتائجها تكون في العادة لمصلحة إيران، وتطوّر الاحداث منذ العام 2011 أكبر دليل. فإيران تنجح في ملء الفراغات الناجمة في النهاية عن ضعف عدد من دول المنطقة.
كما انّ إيران تدرك ثالثاً انّ ترامب أشعل عود ثقاب في القدس حيث اندلعت النيران وهو في الوقت نفسه ليست لديه خطة لإطفائها.
الديبلوماسي الاميركي العتيق والخبير في شؤون الشرق الاوسط دنيس روس قال في محاضرة له الاسبوع الماضي إنّ جون بولتون مستشار الأمن القومي يعتقد أنّ الوقت حان لعزل إيران مالياً والسماح بانهيارها اقتصادياً وبالتالي دفع الجمهورية الإسلامية الى السقوط. لكنّ روس أضاف أنه قلق من عدم تأمين موافقة الأوروبيين. وقال: «اذا تمكّنت ايران من تهديد استقرار المنطقة من خلال توسيع اهدافها العسكرية او استئناف برنامجها النووي فسيعود الاأر الى إدارة ترامب لكي تثبت أنّ لديها سياسة او خطة لإضعاف الاحتمالين». وختم قائلاً: «إيران ستلعب دور الضحية في الوقت الذي تعمل على تصعيد التوترات في المنطقة».
قد يكون استنتاجُ دنيس روس هو ما ينتظر المنطقة فعلياً. ففي الدوائر الأميركية خشية من دفع إيران مجموعات مسلّحة الى مهاجمة واستهداف قاعدة «التنف» جنوب شرق سوريا والقريبة من الحدود مع الأردن وهي النقطة التي تقف على الطريق الذي يربط إيران بالناقورة. اضافة الى قواعد اميركية أخرى قابلة لأن تكون جاذباً لتحرّشات مجموعات مسلّحة.
وفي المقابل فإنّ استخدام واشنطن الطائرات والقصف الجوّي سيعني غرقاً اميركياً في المستنقع السوري وهو ما لا تريده واشنطن، لا بل تتجنّبه وتخشاه وترتعب منه.
لكنّ ثمّة مؤشرات مرعبة عادت الى الظهور لتحاكي سيناريو الفوضى والحرب البديلة وهي إعادة «داعش» الى الحياة مجدداً.
فالتنظيم الارهابي الذي قُضيَ على معظم تشكيلاته العسكرية قد تجد بعض الجهات الدولية مصلحة لها في اعادة بعض الدور له. وطالما انّ خطر خروجه عن السيطرة لم يعد قائماً فلا ضيرَ من استخدام قدراته الارهابية المتبقية بما يلائم النزاع الدائر والذي سيشتدّ في الشرق الاوسط.
وكان لافتاً في هذا المضمار ما نقلته صحيفة «الواشنطن بوست» عن مسؤولين كبار في وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، من أنّ أبو بكر البغدادي يسعى الى طرح استراتيجية جديدة طويلة الامد تتيح لتنظيم «داعش» البقاء. وتحدثت الصحيفة نقلاً عن المصادر نفسها عن انّ اجتماعاً عقده البغدادي لكوادره منتصف عام 2017 وضع خلاله تصوّراً للعمل تحت الأرض، وبالتالي فإنّ البغدادي يتهيّأ للانتقال من هدف «الخلافة» للعودة مجدداً الى الحرب السرّية وترتيب شبكة ارهاب عالمية ويرتكز على الخلايا النائمة. وبغض النظر عن المعلومات التي سرّبتها المخابرات الأميركية من خلال الصحيفة، فإنّ الهدف واضح وهو إعادة إحياء ارهاب «داعش». ما يعني انّ الحروب بالواسطة ستبقى قائمة لا بل مطلوبة.
أما روسيا التي تبدو مستعجلة للاتّفاق على تسوية سلمية حول سوريا كون الظروف الحالية ملائمة لها اكثر من ايّ يوم مضى، فهي تحتسب لاحتمالات المستقبل بكثير من الحذر.