كتبت شهد خالد في صحيفة “العرب” اللندنية:
“لا يمكننا إهمال هؤلاء الأطفال الذين يعانون ويكافحون بقدر استطاعتهم بوجه الفوضى التي تفشّت في هذا العالم”، بهذه الكلمات عبرت المخرجة اللبنانية نادين لبكي عن مشاعرها عقب فوزها بجائزة “لجنة التحكيم” عن فيلمها “كفرناحوم” ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي في دورته الـ71.
فيلم لبكي حاز على إعجاب الكثيرين، حيث وقف الحضور بعد عرضه الأسبوع الماضي لمدة 15 دقيقة للتصفيق، حينها انهارت لبكي من البكاء هي وزجها الموسيقي خالد مزنر، واعتبرت أن هذا التصفيق هو دليل كبير على نجاحها، كون الحضور هم من خيرة المطلعين على الشأن السينما، من صناع أفلام وممثلين ومخرجين وفنيين وصحافيين.
يحكي فيلم “كفرناحوم” قصة صبي صغير يعيش في العاصمة اللبنانية بيروت وتحديدا في أحد أحيائها الفقيرة، ويحاول بطل الفيلم من دون جدوى منع تزويج أخته الصغرى، وبسبب الظروف الصعبة التي يعيشها الطفل والحياة الصعبة التي يحياها يقرر مقاضاة والديه.
لبكي البالغة من العمر 44 عاما قالت لدى تسلمها جائزتها “أريد أن أدعوكم إلى التفكير لأن الطفولة المعذبة هي أساس الشر في العالم”، وأضافت “لا يمكننا أن نستمر بإدارة ظهورنا وغض الطرف عن معاناة هؤلاء الأطفال”.
جسد شخصية البطولة الطفل السوري زين الرافعي الذي ولد في مدينة درعا عام 2004، وقد حرصت لبكي على أن تصطحبه معها إلى مدينة كان الفرنسية لحضور فعاليات المهرجان، وكان زين طوال الوقت مع لبكي وزوجها، حتى أن البعض ظن أنه ولدهما الوحيد المدلل.
رحلة لجوء طويلة عبرها بالحقيقة الطفل زين من درعا إلى شوارع بيروت، حتى تسنت له الفرصة للقاء المخرجة اللبنانية التي اختارته بطلا لفيلمها. وبالطبع كانت صائبة جدا بذلك القرار كعادتها، فقد حصد زين إعجابا كبيرا في المهرجان، وقد بدا الإنهاك عليه، حتى غلبه النعاس خلال المؤتمر الصحافي غداة عرض الفيلم، في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان، والتقطته عدسات الصحافة العالمية وأظهرته بصور مليئة بالطفولة البريئة.
وكانت أسئلة الإعلاميين توجه إلى زين الذي أتت إجاباته قصيرة جدا ومقتضبة، وتكفلت لبكي بترجمتها للصحافيين، ويبدو أن أحلام زين كما واقعه، الذي لا يبعد كثيرا عن أجواء الفيلم. ورد على أسئلة للقناة التلفزيونية الخاصة بالمهرجان أنه شعر خلال التصوير “بالدلال أكثر مما شعر به لدى والديه”، وأفصح عن رغبته في أن يصبح ممثلا، كما أنه يحلم مثل شخصيته في الفيلم بالعيش في أوروبا.
جنون حزب الله
ردود الفعل اللبنانية والعربية على مواقع التواصل الاجتماعي كانت كبيرة جدا فور انتشار خبر فوز لبكي، حيث غرد مستخدمو تويتر بتغريدات تضمنت مباركات وفرحة بنيل الفيلم للجائزة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري الذي قال “مبروك للمخرجة نادين لبكي وكل طاقم فيلم ‘كفرناحوم’ الفوز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي. كل لبنان يفتخر بنجاحك يا نادين”.
المخرج السينمائي المصري عمرو سلامة غرد قائلا “مبروك نادين لبكي حصول كفرناحوم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، شيء يدعوا للفخر، السينما العربية تذهب لأفق جديدة”.
أما الإعلامية ريما مكتبي فقد كتبت أيضا “بصيص أمل من لبنان إلى العالم مبروك نادين لبكي جائزة التحكيم عن فيلم كفرناحوم في مهرجان كان”.
لكن هذا لم يكن كل شيء، فقد أيقظ فوز لبكي بالجائزة غضب حزب الله ووسائل إعلامه، فغرّدت منار صباغ الصحافية ومقدمة البرامج في قناة “المنار” الناطقة بلسان الحزب قائلة “بمناسبة الإفراط بالحديث عن الشخصيات التي ترفع رأس لبنان عاليا لجائزة ما.. يا معشر المثقفين. هذه الصور لشهداء اليوم الأول من معركة القصير 2013. باعتقادي لبنان يكفيه هذا المجد لقرون”.
وتطور الأمر إلى تدخل برلماني لبناني في الهجوم على لبكي، حين غرّد النائب عن حزب الله، نواف الموسوي قائلا “بلا لبكي، بلا وجع راس: وقت الجدّ ما فيه غير سلاحك بيحميك”.
هذه المواقف أحدثت جدلا حادا جدا واستهجانا لاستهداف لبكي من قبل حزب الله وإعلامييه ونوابه. فما كان من الحزب إلا أن أصدر تصريحا رسميا قال فيه إن “ما صدر من تصريحات وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل بعض الإخوة والأخوات بخصوص فيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي لا يعبر عن رأي (حزب الله) ولم يكن له من داع على الإطلاق”.
ولم يتمكن حزب الله من كتم اللغة الانفعالية التي بدت واضحة في التصريح الرسمي الصادر عن دائرة العلاقات العامة في الحزب.
ولم يكتف الحزب المسلح، والمصنف عالميا بالتنظيم الإرهابي، بذلك، بل أصدر توجيهاً قال فيه إن “حزب الله وبيئته لم يكونا يوما ضد الفن الهادف والموضوعات الفنية. والنقد أو الاعتراض على عمل معين دون مشاهدته ليست من قيم حزب الله ومبادئه”.
ويبدو أن ارتباك حزب الله تجاه فوز فيلم لبكي الذي يقوم ببطولته أحد الأطفال السوريين اللاجئين بسبب حرب الحزب في سوريا، يعود إلى حساسيته من مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع الإنسانية في سوريا، على حد تعبير الصحافة اللبنانية التي لم تفوت الفرصة لالتقاط تلعثم الحزب تجاه قضية يفترض أن لا تتسبب بكل هذا اللغط.
لبكي لفتت الأنظار إليها مبكرا منذ تقديمها فيلم تخرجها عام 1997 والذي كان عنوانه “11 شارع باستير”، والذي نال حينها جائزة أفضل فيلم قصير في حفل السينما العربية في المعهد العربي العالمي بباريس. وبعدها اتجهت لبكي إلى إخراج الإعلانات والفيديو كليب لمطربين مشهورين في الشرق الأوسط، وحصلت من خلال ذلك على العديد من الجوائز.
ويمكن القول أن الجمهور العربي حفظ اسم لبكي جراء تميزها في إخراج الفيديو كليب، في وقت شهدت فيه الساحة الفنية العربية ثورة في هذا المجال، وأصبح الفنانون العرب يتسابقون للتعاون معها لإخراج أغنياتهم، لأنها بالفعل أحدثت فرقا كبيرا منذ إخراجها لأغنية “أخاصمك اه” للمغنية اللبنانية ناسي عجرم، حيث أثبتت للوسط الفني والإعلامي أن هناك نفسا جديدا كليا في إخراج الفيديو كليب.
مطربون كثر وضعوا ثقتهم في لبكي، حتى أن هناك من كان يعارض فكرة الفيديو كليب، ولكن موهبة لبكي جعلتهم يعدلون عن مواقفهم، ومنهم المطربة الكبيرة ماجدة الرومي التي تعاونت معها لإخراج أغنية “اعتزلت الغرام” التي لحنها الموسيقار الراحل ملحم بركات، وقد أجادت لبكي بكل ما تعنيه الكلمة في تلك المهمة، حيث أبرزت الرومي بكل أناقة ورقي، وأخذتها إلى عالم الاستعراضات العالمية الكلاسيكية.
سينما ضد التكفير
وتسعى لبكي دوما للاطلاع على الثقافات الأخرى، من خلال تعلم اللغات، فهي تتحدث كلا من العربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية بطلاقة، ودائما ما تحاول المشاركة في مهرجانات سينمائية عالمية متنوعة، وهي تحظى باحترام شديد من قبل القائمين على إدارات بعض المهرجانات، فقد دُعيت أكثر من مرة لتكون ضمن لجان تحكيم مختلفة.
تزوجت نادين من الموسيقار والموزع الموسيقي خالد مزنر في عام 2007، وهو من وضع الموسيقى التصويرية لكل أفلامها المنتجة، وأنجبت منه طفلها الأول وليد في العام 2009.
انتقال لبكي من مجال الفيديو كليب إلى عالم السينما، كان مرحبا به من قبل الجمهور والصحافة أيضا، فالجميع توقع أنها سوف تضع لمستها في السينما اللبنانية التي كانت نائمة نوعا ما في بداية الألفية الجديدة، وفي العام 2006 ألفت قصة فيلمها الأول “كراميل سكر نبات” بالتعاون مع كل من رودني حداد وجهاد حجيلي، وكتبت السيناريو الخاص به بنفسها، وقامت أيضا بالبطولة إلى جانب عدد من الممثلين اللبنانيين منهم عادل كرم وياسمين المصري وجوانا مكرزل، حيث قامت بإخراجه وشاركت بإنتاجه أيضا.
سلطت لبكي الضوء من خلال “كراميل” على وجه غير مسموح له أن يرفع عنه النقاب، حين قدمت شخصية “نسرين” وخطيبها في مشهد يتطفل فيه الحارس الأمني الليلي عليهما، وهما في انتظار شخص تحت بناية سكنية، ومع ذلك يقود هذا التطفل إلى مركز الشرطة بتهمة الخلوة غير الشرعية والكفر، لاستغلال الحارس جملة انطلقت من فم خطيب نسرين، حين صرخ غاضبا باللهجة اللبنانية “الله ما بيحركني من محلّي”، في مشهد يغلب عليه طابع الكوميديا السوداء، وتحول ضابط التحقيق من رجل أمن إلى شخص متسلط يريد تلفيق تهمة ترتبط بالدين.
الفيلم يناقش مشاكل اجتماعية لم يتم التطرق لها في الدراما و السينما اللبنانية، بطريقة سلسلة تمتاز بخفة الدم في التمثيل أو الإخراج. وتم عرضه لأول مرة خلال أسبوعي المخرجين بمهرجان كان السينمائي في العام 2007، وحقق نجاحا تجاريا كبيرا في صيف العام نفسه في كل دور العرض اللبنانية. وكان الفيلم الأول الذي ينتقل إلى دور العرض العربية، كما تم بيعه في جميع أنحاء العالم وحصد عددا من الجوائز الهامة في عدة مهرجانات دولية، مثل جائزة مهرجان أوسلو للأفلام، وثلاث جوائز في مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي، وجائزة من مهرجان ستوكهولم السينمائي.
فيلم “كراميل” جعل نادين تتلقى الكثير من الإشادة كممثلة ومخرجة وكاتبة على حد سواء، ووضعها في قائمة أفضل 10 مخرجين في مهرجان صندانس السينمائي، وفي عام 2008 منحتها وزارة الثقافة والإعلام الفرنسية وسام الفنون والآداب.
لم تنتظر لبكي كثيرا لخوض تجربتها السينمائية الثانية، خصوصا أنها تفرغت حينها بشكل كامل للعمل في السينما، وابتعدت عن مجال الفيديو كليب، وفي العام 2010 أخرجت ولعبت دور البطولة في فيلم “وهلأ لوين؟”، الذي تناول بحس فكاهي موضوعا حساسا للغاية، وهو الطائفية في لبنان.
يروي الفيلم قصّة مجموعة من النساء، مسلمات ومسيحيات، يعشن في قرية لبنانية واحدة يتجاور فيها المسجد مع الكنيسة، ويحاولن بكل الوسائل منع تجدد الحرب الدينية في القرية.
تم عرض الفيلم لأول مرة بمهرجان كان السينمائي في فئة “نظرة خاصة” العام 2011، وقد حصد الفيلم نجاحا دوليا واسعا، حيث نال جائزة اختيار الجمهور بمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، وحصد أيضا العديد من الجوائز الأخرى في العديد من المهرجانات حول العالم مثل مهرجان سان سيباستيان الدولي ومهرجان ستوكهولم السينمائي، وتم ترشيحه لجائزة أفضل فيلم أجنبي باختيار النقاد في لوس أنجلس.
لبكي من الفنانات اللاتي أردن اقتحام مجال السياسة في لبنان، حيث رشحت نفسها على لائحة الحركة السياسية الجديدة “بيروت مدينتي” في الانتخابات البلدية للعاصمة بيروت في شهر مايو عام 2016، وعلى الرغم من حصولها على حوالي 40 بالمئة من إجمالي الأصوات المحلية، فإن الحركة خسرت أمام المنافس لها في لائحة “البيارتة” التي يدعمها الحريري في كل الدوائر الانتخابية الـ24، حينها نالت لبكي دعما كبيرا من الفنانين، وكتبت عنها الكثير من الأقلام الصحافية، مادحة حسها الوطني الذي أرادته أن ينتقل من عالم السينما إلى الواقع الحالي الحقيقي.