IMLebanon

لبنان المشدود بحصانيْن مُتَعاكِسَيْن يتّجه إلى حكومةِ… “أقلّ الأضرار الممكنة”

كتبت صحيفة “الراي” الكويتية:

لن يغيّر المَحضر الرسمي للاستشارات الخاطفة، التي يُجْريها على مدار اليوم الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري مع الكتل البرلمانية والنواب المستقلّين، من وقائع المَشهد السياسي الجديد الذي يُرْخي بظلاله على لبنان وتركيبتِه ومن بلوغ التقاطُعات الداخلية – الاقليمية فيه مرحلةً شديدة الحساسية في ضوء اختلال موازين القوى المحلية لمصلحةِ «حزب الله» وما يرْمز إليه في سياق المشروع الإيراني في المنطقة بالتوازي مع تَعاظُم المواجهة الأميركية – الخليجية مع إيران وأذْرعها في المنطقة.

ويؤشّر السيناريو الافتراضي لاستشاراتِ الحريري التي تبدأ قبل ظهر اليوم الاثنين وتنتهي بعده، إلى خلاصاتٍ من نوع الإجماع على «ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة لمواجهة التحديات»، وعلى «حكومةِ وحدةٍ وطنية موسّعة من 30 وزيراً وربما أكثر»، وعلى «الحاجة لإيلاء قضايا الناس الأولوية»، وعلى العنوان السحري الذي يغزو الوسط السياسي هذه الأيام والمتمثّل بـ «مكافحة الفساد» وكأنه اسمٌ حرَكي يُضْمِر أهدافاً مختلفة.

ومع نهاية اليوم الماراثوني، سيجد الحريري نفسه بعد جوْجلةِ المَطالب والشروط، أمام وقائعَ صعبةٍ تحتاج إلى «كاسحةِ ألغامٍ» للمضيّ إلى تشكيل الحكومة وصدور مراسيم ولادتها في الموعد الافتراضي عشية عيد الفطر أو غداته، حسب ما كانت أشارت إليه «الراي» في 22 من الجاري. ومن أبرز تلك الوقائع:

* ان الثنائي الشيعي (حركة «أمل» و«حزب الله») شكّل حصّته من الحكومة العتيدة وأَوْدَعَها الرئيسَ المكلّف، بعدما كان اللقاء لـ «ساعاتٍ» بين زعيم «أمل» رئيس البرلمان نبيه بري والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله (الجمعة) خلُص إلى التفاهم على تَقاسُم الحصة الشيعية بالتساوي ومنْح وزارة المال لـ «أمل» وتخصيص حقيبةٍ خدَماتيةٍ وازنةٍ لـ «حزب الله».

ومن المؤكد أن «حزب الله» سيردّد على مَسامع الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة مَطْلَبَه استحداثَ وزارةِ تخطيطٍ، وهو مَطْلَبٌ ينطوي على «قطبةٍ مَخْفِيّة» يُراد من خلالها، حسب خصوم «حزب الله»، تفكيكَ مجلس الإنماء والإعمار المُرْتَبِطِ مباشرةً برئيس الوزراء، والذي يتمتّع بصلاحياتٍ ومهام ومرونةٍ واسعة، وكان الرئيس الشهيد رفيق الحريري جَعَلَه إبان وجوده في الحُكم الأداةَ الأكثر حيوية في مشروع إعادة الإعمار.

وفي تقدير خصومه، فإن «حزب الله» الذي قرّر الدخولَ بقوّةٍ الى الحكومة بعدما حقّق فوزاً بارزاً في الانتخابات النيابية، عيْنُه على أمريْن: مشاركة الآخرين في الملف الاقتصادي بعدما جرى التسليم له بالإمرة الاستراتيجية كناظِمٍ سياسي – أمني في البلاد، والعمل تالياً على قيادةِ توازناتٍ جديدة تتيح له تعديلَ آلياتِ اتخاذ القرار في مجلس الوزراء.

* وإذا كان «الثنائي الشيعي» يقْتحم لعبةَ تشكيل الحكومة بأعلى درجات التناغُم، فإن الثنائي المسيحي، أي «التيار الوطني الحر» (حزب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون) برئاسة الوزير جبران باسيل وحزب «القوات اللبنانية» بقيادة الدكتور سمير جعجع، يَسْتَبْسِلان في قتالِهما على تَقاسُم الحصة المسيحية على وهْجِ ما أَسْفَرَتْ عنه نتائج الانتخابات النيابية. فـ باسيل يخوض معركةَ تحجيمِ تمثيل «القوات» في الحكومة رغم خروجها من الانتخابات بكتلةٍ ضاعفتْ حجمَها النيابي، ويسعى إما الى إذعانها عبر القبول بأقلّ مما تستحقّ، وإما إلى إحراجها فإخراجها، في موقفٍ ينْطوي في واحدٍ من أبعاده على عدم الإقرار بأنها شريكٌ مُضارِب في التمثيل المسيحي، ربْطاً بحساباتٍ تتصل بالانتخابات الرئاسية.

ورغم أن باسيل يتكئ على رئيسِ الجمهورية ورَمْزِيَّتِه وعلى شبكةِ تحالفاتٍ واسعة، فإن جعجع يستندُ إلى مَكامن قوةٍ عدة كإقرار الجميع بخروجه من الانتخابات بكتلةٍ وازنة، وإدراكهم الحاجةَ الى حكومةٍ جامعة، والرغبة الأكيدة للرئيس الحريري بوجودِ حليفٍ إلى جانبه في مجلس الوزراء يتمتّع بحضورٍ فاعل، إضافة الى أن التمثيل المُنْصِف لـ «القوات» يحدّ من اختلال موازين القوى على طاولة مجلس الوزراء، وهي مسألةٌ بالغة الحساسية لا يمكن تَجاوُزها لاعتباراتٍ داخلية وإقليمية على حد سواء.

* لن تقتصر لعبةُ الثنائياتِ على الوسطيْن الشيعي والمسيحي، بل ثمة مشكلةٌ بمعايير أخرى تقفز من البيئة الدرزية الى حلَبةِ تشكيلِ الحكومةِ مع التوتر الطارئ الذي بدأ إبان الانتخابات النيابية ويستمرّ على حماوتِه بين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والنائب طلال إرسلان بعدما بدا الأخير وكأنه شكّل «دفرسوار» أراد من خلاله «التيار الوطني الحر» فرْض وقائعَ جديدة في الجبل (الشوف – عاليه) بطريقةٍ صِدامية أكثر مما هي وليدة تفاهُمات عريضة.

وانطلاقاً من هذا المناخ، جرى تركيبُ كتلةٍ برلمانية برئاسة إرسلان اقتُطعتْ من تكتل التيار وحلفائه (لبنان القوي) بهدف توزيره لكسْر حصريةٍ يريدُها جنبلاط في التمثيل الدرزي، وهو أمرٌ لن يكون في وسْع الحريري تَجاهُله وربما تكمن مَخارجُه في تدوير حقائب وأسماء على نحوٍ لا يُغْضِب جنبلاط ويُرضي تَحالُف إرسلان – باسيل.

غير أنه خارج لعبة «القط والفأر» في الصراع على الحصص والحقائب، فإن شروعَ الحريري في تشكيل حكومته الثالثة (الأولى سقطتْ بانقلابٍ سياسي – دستوري قاده «حزب الله» العام 2011 والثانية وُلدت أواخر 2016 من رحم التسوية الجديدة التي جاءت بعون رئيساً) يَجْري في ظل مُفارقتيْن تشبهان إلى حدّ بعيد حكاية جرّ العربة بحصانيْن في اتجاهيْن متعاكسيْن، وهو الأمر الذي يعني أن مهمّته ستكون محفوفةً بمَحاذير بالغة الدقة.

المُفارقةُ الأولى أن «حزب الله» الذي خرَج منْتصِراً من انتخاباتٍ تشكل في رأي بيئته بدايةَ «خَلْخَلَةِ» النظام القائم وتركيبته، سيَمضي بما يحلو للبعض وصْفه بـ «الانقلاب الناعم»، أي عبر القيام بعملياتِ قضْمٍ مُمَنْهَجَة للسلطة وآلياتها لفرْض تغييرٍ في المعادلةِ القائمة من الداخل وعلى البارد لإدراكه الحساسية المفرطة للتوازنات الطائفية في البلاد.

والمُفارقةُ الثانية تطلّ من الخارج عبر سيْف العقوبات الأميركية – الخليجية غير المسبوقة على «حزب الله» وقيادته التي أُدرجتْ على لوائح الإرهاب، وهو التطوّرُ الذي يشكل دفْعةً على الحساب في المواجهةِ مع إيران وأَذْرعها في ظل صعود نجم الصقور في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وصحيح أن دولَ الخليج قاطبةً كانت حاسمةً في دعْمها لمهمة الحريري، وبلا أي قيد أو شرْط، وأنها أدارتْ الأُذُنَ الصماء لنصائح من نوع أن عدم تشكيل حكومةٍ جديدة في لبنان هو أقلّ فداحة من تأليفها، إلا أنه سيكون من الصعب عدم الأخذ بالاعتبار في بيروت أن المجتمعيْن العربي والدولي لن يتساهلا حيال أي قفْزةٍ لبنانية غير محسوبة.