كتب د. سهام رزق الله في صحيفة “الجمهورية”:
يشهد لبنان موجة انتشار لمفهوم المسؤولية الاجتماعية المتنامية منذ سنوات لا سيما منذ العام 2010 تاريخ نشر معايير ايزو 26000 الخاصة بهذا الشأن… ولكنّ الإشكالية الملفتة تبقى في أنّ المسؤولية الاجتماعية رغم أنها أصبحت رائجة في مجتمع الأعمال اللبناني إلّا أنّ تقدّمَها لا يزال بطيئاً من ناحية المؤشرات العلمية (مقاييس المساهمة في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، التقارير الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية…). كما أنّ تقدّمَها يبدو غيرَ منتظم بين القطاعات إذ هو متسارع في البعض منها ومتعثر في البعض الآخر. فما هو سرّ هذا التأرجح لنظام تقدّم المسؤولية الاجتماعية في لبنان وعلى أيّ أسس ونموذج علمي يمكن قراءة أحوالها وتبيان العوامل المؤثرة فيها والمساهمة في تقدّمها مع الأخذ في الإعتبار خصوصيات الواقع اللبناني؟
في الواقع، لقد أدخلت وانتشرت المسؤولية الاجتماعية في لبنان بمبادرة حرّة فردية اختيارية وتطوّعية من قبل القطاع الخاص اللبناني. أما المبادرة الوحيدة لمؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية «ليبنور» فهي بتمويل من الوكالة السويدية الدولية للتنمية وهي أيضاً فردية ومباشرة مع المؤسسة دون أن يعني ذلك أيّ تبنٍّ أو مواكبة من وزارة الصناعة أو أيّ هيئة رسمية لها علاقة بالمؤسسة.
هكذا بقي إدخال المسؤولية الاجتماعية في لبنان عملاً حرّاً غير مواكب ولا موجّه ولا مشروط ولا منتظم بل إنه هادف بشكل أساسي لتحقيق ما يُسمّى بـ»المشروعية الاجتماعية» انطلاقاً من مرتكزات ثلاثة:
المماثلة أو التقليد
المرتكز الأول هو المماثلة أو التقليد حيث تسعى بعض المؤسسات في قطاعات معيّنة الى تقليد المؤسسات الكبرى فيها والرائدة في مجال المسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة بمحاولة استلحاق نفسها للحفاظ على مصداقيّتها وحصّتها في السوق وتلميع صورتها على غرار المؤسسات الكبرى بغض النظر عن قناعتها وتمكّنها من الإلتزام بمعايير المسؤولية الاجتماعية.
وهذا الخيار يحصل عادةً في القطاعات التي يكثر عدد المؤسسات ويجمعها إطار ناظم (جمعية، نقابة، هيئة رسمية…)، والتي إما تكون تحقّق مستويات أرباح مرتفعة حتى في ظلّ وضع إقتصادي عام هشّ وتكون تسعى للتثبيت للرأي العام أنها حريصة على مشاركة محيطها ومجتمعها بجزء من هذه الأرباح (وهذا تحديداً وضع القطاع المصرفي في لبنان).. أو تكون مؤسسات متّهمة بطبيعة عملها بالتسبّب بضرر بالبيئة والطبيعة (مثلما هي حال بعض المصانع وشركات إنتاج الترابة..) والتي تجد نفسَها مضطرّةًَ لإظهار حرصها على اعتماد المسؤولية الاجتماعية والمساهمة في التنمية المستدامة التي تشمل ثلاثة نواحٍ: إقتصادية، إجتماعية وبيئية.
إظهار الحرص
المرتكز الثاني يعتمد على إظهار حرص المؤسسات المعنية باحترام جملة معايير ومواصفات وقيَم إجتماعية وإنسانية لها وقعها وأهميّتها في المجتمع الذي تعمل فيه هذه المؤسسات (الحرية، حقوق الإنسان، تماس العائلة، القيَم الروحية المستندة الى مبادئ دينية وأخلاقية) أو قيَم كبرى عالمية تتخطّى حدود الإنسان والطفل وأصحاب الحاجات الخاصة والتعددية الثقافية والحضارية ورفض العنصرية والتمييز على أساس الانتماء..
وهذا المرتكز هو إجمالاً الحافز الأساسي نحو المسؤولية الاجتماعية لدى المؤسسات الكبرى الدولية والعاملة في بلدان عديدة تسعى فيها لتخطّي التميّز واعتناق القيَم الكبرى على ما هي حال مثلاً المؤسسات المشغّلة لقطاع الاتّصالات الخلوية ومؤسسات تجارية كبرى..
العنصر التنظيمي
المرتكز الثالث يتمحور حول العنصر التنظيمي الذي يربط تطبيق وتطوير المسؤولية الاجتماعية في البلد والقطاع المعني والمؤسسة الخاصة بوجود قوانين وأنظمة راعية لآلية تنفيذها وتقييمها لتكريم مَن هم في خطّها، وإعطائهم الحوافز اللازمة لتشجيعهم على هذا الخيار أو حتى إلزام بقية المؤسسات باعتماد هذا النهج وصولاً الى معاقبة مَن يثبت أنّ أداءَه مناهض للمسؤولية الاجتماعية. وهنا لا بد من التنبّه الى حاجة بعض القطاعات لهذا التنظيم والدعم والحوافز (مثل المؤسسات الصغيرة اللبنانية والقطاعات الصناعية والتجارية المتأثرة بضعف النموّ الاقتصادي والتي لا تسمح موازناتُها باعتماد المسؤولية الاجتماعية دون التفاتة دعم من الدولة). أما طبيعة الحوافز التي يمكن للدولة أن تقدّمَها في هذا المجال فهي عديدة مثل تخفيضات ضريبية، تميل المؤسسات المسؤولة اجتماعياً بقروض مدعومة بفوائد مخفّضة، إلزام المؤسسات التي يتخطّى حجم مبيعاتها أو عدد عمالها سقفاً معيّناً أن تنشر تقارير حول مساهمتها بالتنمية المستدامة)، تقديم شهادات تقدير أو جوائز تميّز رسمية للمؤسسات التي تعتمد المسؤولية الاجتماعية في استراتيجياتها لتمييزها عن سواها في قطاعاتها…).
إنشاء هيئة رسمية
هكذا تبيّن أنّ النموذج النيوكلاسيكي يلخّص ويترجم وقع المسؤولية الاجتماعية في لبنان كما العناصر المؤثرة سلباً وإيجاباً في تطويرها. فإذا كان «التماثل» واعتماد «مقاربة القيَم» يسمحان بتقدّم المسؤولية الاجتماعية في قطاعات مثل المصارف والاتصالات، لا بد أنّ غياب التنظيم والقوننة والحوافز المالية والضريبية والمعنوية لا يشجّع على تنامي المسؤولية في القطاعات الأضعف مثل المصانع والمتاجر خصوصاً الصغيرة منها.
ولكن قبل البحث بالتدخّل المطلوب لدعم وتشجيع مسيرة المسؤولية الاجتماعية لا بد من السؤال حول سبل تأخير العمل بتبنّي الدولة اللبنانية إنشاء هيئة رسمية ترصد وتجمع داتا معلومات حول المؤسسات المسؤولة اجتماعياً في لبنان وتعتمد هيئة وآلية تقييم لإنجازاتها وحاجاتها لتتمكّن بعدها من تقديم التصوّر المساهم بتقدّمها، فضلاً عن السؤال حول دور أصحاب المصالح من مستهلكين وموظفين وإعلام ومجتمع مدني بالقيام بالضغط المطلوب للتأثير على الرأي العام والأفرقاء المعنيّين بحث المؤسسات نحو المزيد من المسؤولية الاجتماعية…