كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:
وقفَت أمّهاتُ تلامذة الشهادة المتوسطة على مداخل مراكز الامتحانات يُردِّدن غيباً على مسامع أولادهنّ محاورَ من كتاب التاريخ. بهذه المشهدية انطلقت أمس الامتحانات الرسمية اللبنانية في «البريفه» والتي امُتحِن فيها أكثر من 59 ألف مرشّح في التاريخ والتربية المدنية والكيمياء. يومٌ كاد أن يَمُرّ من دون أيّ علامة استفهام تُذكر لولا البَلبة التي أحدثها انتشارُ خبر سقوط المرَبّية المراقِبة هند م.ك. (55 عاماً) من الطابق الثالث ووفاتها.
عند السابعة صباحاً بدأ المرشّحون وأهاليهم بالتجمّع أمام مداخل مراكز الامتحانات، وسط تدابير أمنية وانتشارٍ كثيف لعناصر الجيش والدرك. بدت الأمور على خير ما يُرام، وصَلت المسابقات إلى المناطق مع ساعات الفجر الأولى، لتُوزَّع على المرشحين في الوقت عينِه على كامل الأراضي اللبنانية، إلّا أنّ خبر سقوط المربّية هند ملحم كرم (55 سنة) من الطابق الثالث في طرابلس هزَّ الأوساط التربوية، التي بذلت جهداً للمحافظة على الهدوء والانضباط من دون إثارة أيّ بَلبلةٍ قد تؤثّر على معنويات التلامذة ومسارِ الامتحانات منذ اليوم الأوّل.
شمالاً: سَقطت أم انتحرَت؟
في محافظة الشمال حيث يبلغ عدد المرشّحين 13 ألف، موزّعين على 62 مركزاً، مِن بينها مدرسة إبن خلدون الرسمية للبنات التي شهدت حادثةً مؤثّرة، إذ لفَظت المربّية هند أنفاسَها الأخيرة بعدما سقطت من الطابق الثالث إثرَ وصولِها إلى المدرسة بدقائق للمشاركة في عملية مراقبة، قرابة السابعة والربع، وقبل دخول المرشّحين إلى المركز. رئيسة المنطقة التربوية نهلا حاماتي، أكّدت لـ«الجمهورية»: «أنّ المركز آمنٌ لوجستياً 100% على المرشحين والأساتذة، ولا يُمكن لأحد الوقوع إلّا إذا هو أراد»، وتابعَت موضحةً: «رحلَت المرحومة قبل أن تكون قد وقّعَت اسمَها بأنّها حضَرت كبقيةِ المراقبين، وصَلت وأخَذت السلالم متوجّهةً إلى الطابق الثالث، عِلماً أنّه لم يُستعَن بالغرف الموجودة فيه، بل هو فارغ». أمّا عن كيفية عِلمهم بوقوع الحادثة، فقالت: «أحدهم رآها واقعةً على جهة جانبية من المركز فأبلغَ القوى الأمنية وطلبنا سيارةَ الإسعاف وأخَذت التحقيقات طريقها إلى حين وصَل المدير العام الأستاذ فادي يرق». واكتفَت بالقول: «أرفض استباقَ التحقيقات ولكنّ المسألة شخصية ولا علاقة للامتحلانات بها».
بيروت… الأشرفية «سكّرت»
بدت زحمة السير خانقةً في العاصمة بيروت، حيث مراكز الامتحانات متقاربة والمواقف شِبه معدومة. في الأشرفية شارع «الشحروري» تحديداً أمام ثانوية لور مغيزل الرسمية للبنات بدا المشهد أشبَه بتظاهرة تربوية، ومن حظيَ بـ«مرقد سيّارة» من الأهالي كمن رَبح اللوتو. وحدهنّ الأمّهات وقفنَ يتنافسن فيما بينهنّ على المراجعة الأخيرة، على اعتبار «بلكي بتِعلق شي معلومة براس هالولاد»، أمّا المرشّحون فمنهمكون بالترجيحات، وما تمّ تداوُله عشية مسابقة التاريخ، «القضية الفلسطينية والأردن من أبرز المحاور التي ستُطرَح لأنّها كانت ملغاة وأعيدَت مؤخّراً»، تقول إحدى المعلّمات التي تُرافق ابنَها، فتُقاطعها إحدى الطالبات: «mais c›est quoi ca mom»، ما دفعَ بوالدتها للترجمة لها إلى الفرنسية.
سؤال تلك الشابة عكسَ تململَ مجموعةٍ كبيرة من المرشّحين ذوي الثقافة الفرنسية من الكتابة باللغة العربية. وفي جولةٍ لـ«الجمهورية» على الغرف، انقسَم المشهد ما بين مرشّحين لم يوقِفوا كتابةً منذ اللحظة الأولى، وفئةٍ أخرى تنتظر «بس أوّل كلمة»، لتتذكّر ما حفظته، وفئة تُدرِك الجواب ولكن يتعذّر عليها التعبير باللغة الأم. أمّا الانطباع الأوّل الذي خرج به الطلاب، «كِلّ الترجيحات كانت إشاعات وما إجا شي»، أمّا الأهالي فذهبوا أبعد من ذلك، فجَمعوا ما بين زيارة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى فرنسا وما بين السؤال الرابع عن الحرب العالمية الثانية والتدابير الفرنسية والإجراءات التي اتّخَذها المفوّض السامي، وغيرها من التفسيرات والتأويلات الخاصة بكلّ سؤال من الأسئلة الستة التي طُرحت.
في هذا السياق، أعرَب رئيس المركز حيدر إسماعيل في حديث لـ«الجمهورية» عن امتنانه من انطلاقة الامتحانات، قائلاً: «وسط أجواءٍ هادئة انطلقَ هذا الاستحقاق، حاوَلنا استقبالَ الطلّاب بابتسامةٍ عريضة. ويضمّ المركز هنا 180 مرشّحاً، موزّعين على 9 غرف، من بينهم 10 طلبات حرّة، أمّا المراقبون فعددهم 24، في كلّ غرفة مراقبان وفي الممشى مراقب عام».
لم يكن من الصعب الاستدلال إلى مدرسة سلمى الصائغ الكائنة على بُعد أمتار من مركز لور مغيزل، نظراً إلى أنّ الأمّهات افترَشنَ الرصيف وفضّلنا عدم تركِ أولادهنّ، فتداخلت الأحاديث ما بين رفعِ الصلاة وتنظيمِ الصبحيات. مضَت الساعة الأولى بسلامة، وعند قرعِ الجرس الأوّل هرَع التلاميذ إلى البوّابة يُطَمئنون أهلَهم كمن يقفُ عند الشريط الشائك على الحدود: «كيف عملتِ؟»، «شو بقول لبَـيِّـكْ عم بتلفِن؟»، وغيرها من الاستفسارات. ومع قرع الجرس الثاني، ساد الصمت، ووَجد الأهالي أنّ الكيمياء «مِش ملعبُن»، ليس بوسعِهم أن يجودوا في التحليلات، فانتقلَ الحديث إلى استرجاع ذكرياتهم الخاصة «نِحنا ع إيامنا كان التقديم…».
لم تُسجَّل أيّ ملاحظة تُذكر على صعيد مسابقة الكيمياء في مدرسة سلمى الصائغ، بل حظيَت برضى معظمِهم لجهة المضمون والوقت المخصّص لها. في هذا السياق، أكّد رئيس المركز عمر شعيت لـ«الجمهورية» عدمَ حصولِ أيّ محاولة غشّ، قائلاً: «لم نضبط أيَّ هاتفٍ أو «راشيتا»، معظم المشاركين يبدون أعلى درجات من الجدّية والجهوزية، لم نجبَر على توجيه أيّ ملاحظة لأحد». وأضاف: «يضمّ المركز 162 مرشّحاً، بينها طلبان حرّان فقط، 26 مراقباً، والأمور تسير على خير ما يُرامم، حتى إنّ في محاذاتنا ورشة بناء، إلّا أنّهم أوقفوا العمل بعد توصيةٍ خاصة».
في جبل لبنان
قرابة الحادية عشرة قبل الظهر، انتقلنا إلى جبل لبنان، حيث اختلف المشهد أمام المراكز، صبرُ الأهالي قد نفِد من الانتظار ومِن وهج حَرِّ الشمس، فانتقلوا إلى سياراتهم أو إلى المقاهي المجاورة: «من الصبح واقفين وراسنا مشوّش»، تتأفّفُ إحدى الجدّات التي أبَت إلّا أن تُرافقَ حفيدها إلى الامتحان كونها الشهادةَ الأولى في العائلة.
في محيط مدرسة القديسة ريتا – ضبية، وحدهم الأمنيون صَمدوا واقفين حتى آخِر لحظة، عينٌ على عقربِ الساعة وأخرى على البوّابة لتُفتح معلِنةً انتهاءَ اليوم الأوّل. بدت الأجواء هادئةً في المركز، الكلّ منغمس في مسابقة التربية المدنية يأبى المغادرةَ قبل استنفاذ كلِّ الوقت المخصّص لها، متهامسين: «انشالله كِل الأيام مِتل أوّل نهار». في هذا الإطار، قالت رئيسة المركز مدى سليمان لـ«الجمهورية»: «في المركز 169 مرشّحاً، موزّعين على 11 غرفة، 29 مراقب، و4 مراقبين عامّين، ولم يُسجَّل أيّ غياب، فالحضور 100%». وأضافت: «حَرصنا على عدم إدخال الهواتف إلى المركز، أمّا الحقائب فبقيَت في الملعب، الأجواء جدّية إلى أقصى الحدود، من دون أن ننسى الابتسامة في وجه التلاميذ».
ختاماً، يواصل اليوم طلاب البريفه امتحاناتهم مع مادتيّ علوم الحياة والأرض واللغة العربية.