كتبت كلير شكر في صحيفة “الجمهورية”:
منذ العام 2005 باتت لـ«الطبخة» الحكومية نكهة جديدة. قواعد مُحدَثَة فرضها لاعبون محلّيون يتولّون الجزءَ الأكبر من «الوصفة». البهارات الإقليمية لها دورُها وبصماتُها على التركيبة، لكنّ الاعتباراتِ الطارئة بفعل المتغيّرات فرضت أعرافاً، كانت طوال الفترات السابقة، غائبةً أو مموَّهة.
على وقع زلزال اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري تغيّرت المعادلة التي كانت تحكم لبنان منذ نشوء دولة «الطائف». توسّطت الخشية واللاثقة منظومة العلاقات التي تربط القوى السياسية بعضها ببعض، فتبدّلت معاييرُ التوازن الحكومي.
أربع حقبات ميّزت السنوات الـ13، وهي: تلك التي تلت الاغتيال ويومها قرر «حزب الله» الدخول للمرة الأولى الى عمق السلطة ممثلة بالحكومة ليكون شريكاً ولو بـ«حفنة» من المقاعد، ثمّ حقبة «اتّفاق الدوحة» عام 2009 التي تمحور البحث خلالها عن الثلث المعطل، ومن ثمّ حقبة رئاسة العماد ميشال عون التي شكلت بالنسبة لـ«حزب الله» ضمانة تُطمئن البال للسلطة التنفيذية. أما الحقبة الأخيرة فهي مع تأمين الضاحية الجنوبية وحلفائها لأكثرية نيابية. ولكل من هذه الحقبات عنوانه.
هكذا تشكّلت الحكومة الرقم 69 منذ الاستقلال في 19 تموز 2005 برئاسة فؤاد السنيورة عقب الانتخابات نيايبة أشرفت عليها حكومة نجيب ميقاتي «الحيادية». يومها اندلع نزاعٌ خفيّ حول «الثلث المُعطِّل» وقد اعتقدت قوى 8 آذار أنّ وزيرَي الرئيس اميل لحود، أي طارق متري وشارل رزق يؤمّنان هذا الثلث، وإذ بالتطوّرات تُثبت العكس. ما اضطُرّ الوزراء الشيعة الى الاستقالة في11 تشرين الثاني 2006، وتبعهم يعقوب الصراف بعد يومين بسبب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
بناءً عليه، كرّست قوى 8 آذار بند «الثلث المُعطِّل» في «اتّفاق الدوحة» ليحكم حكومة الرئيس ميشال سليمان الأولى برئاسة السنيورة والتي أبصرت النور في 11 تموز 2008 وكانت موزّعة كالآتي: 16 وزيراً لتحالف 14 آذار، 11 وزيراً لتحالف 8 آذار، و3 وزراء لرئيس الجمهورية.
وما كان يحصل بنحوٍ مموَّه مع مَن سبقوه الى قصر بعبدا، فعلها سليمان علناً من خلال تسمية وزراء يمثلونه على طاولة الحكومة.
حكومة سعد الحريري الأولى حملت الرقم 71 في تاريخ الحكومات منذ الاستقلال والثانية في عهد سليمان وقد وُلدت في 9 تشرين الثاني 2009، وهي الحكومة التي تلت الانتخابات النيابية التي أُجريت في 7 تموز من العام نفسه.
حينها، وقع الانقلاب المعاكس. الـ»سين. سين» حملت الحريري الى دمشق، وجنبلاط الى الموقع الوسطي.
إذ بعد حصول الحريري على 86 صوتاً خلال الاستشارات الملزمة تمّ الاتّفاق بعد المشاورات بين رئيس الحكومة ومختلف الأطراف على أن تكون الحكومة ثلاثينيّةً وفق توزيعٍ جديد حيث تحصل الأكثرية النيابية على 15 وزيراً وتحصل المعارضة على 10 وزراء بينما يكون لرئيس الجمهورية 5 وزراء. إلّا أنّ الخلافَ وقع يومها بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون لرفض الحريري توزير جبران باسيل بسبب خسارته في الانتخابات ورفض إعطائه وزارة المواصلات. واستمرّ الخلاف إلى أن قدّم الحريري في 7 أيلول تشكيلةً لرئيس الجمهورية رفضتها قوى 8 آذار ما دفع رئيس الحكومة المكلّف الى الاعتذار عن التأليف في 10 أيلول.
وبعد إجراء استشاراتٍ نيابيّة جديدة أُعيد تكليفُ الحريري مجدّداً ونالت حكومتُه الثقة في 10 كانون الأول 2009 بعد الاتّفاق على تسمية عدنان السيد حسين «وزيراً ملكاً».
وبعد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المخالفة لمسار سابقاتها، حاول الرئيس تمام سلام مقاومة تيار «الثلث المُعطِّل» يدعمه سليمان، الأمر الذي علّق حكومته 11 شهراً الى أن أبصرت النور في 14 شباط 2014، بعدما أبقي «الثلث المُعطِّل» مضموراً وقد حكمها الاتّفاق على التوافق وعدم اللجوء الى التصويت.
في عهد عون اختلطت الاصطفافاتُ بين 8 و14 آذار، وخَفُتَ نجم «الثلث المعطِّل» في حكومة الحريري التي صدرت مراسيمُ تأليفها في 18 كانون الأول 2016. وقد بدا أنّ هناك أكثرياتٍ وزارية جديدة قادرة على التحكّم بالمسار الحكومي بفعل التفاهمات الناشئة على أطلال الاصطفافَين السابقَين. وأهمل الثنائي الشيعي مهمة البحث عن «ثلثٍ ضامن» أو مُعطِّل نتيجة الضمان الذي قدّمه وجودُ حليف «تفاهم مار مخايل» في سدة الرئاسة، على ما يؤكّد أحدُ المطّلعين على العلاقة الثنائية.
حالياً يعد رئيس الحكومة المكلّف اللبنانيين بـ»عيدية» الحكومة. تحدّيات تأليفها متعدّدة الوجوه. هو يتمنّى تكرارَ تجربة حكومة العهد الأولى في قواعدها ولكنها تمنّيات يدرك جيداً أنها لن تتحوّل واقعاً طالما أنّ توازناتِ صناديق الاقتراع هي التي ستُملي قواعدَ التأليف، وقد فعلت النسبيّة فعلها في النتائج.
أولى تلك التحدّيات، هي خشية الحريري نفسه من مواجهة واقع مشاركته الحتمية مع خصومه السنّة على الطاولة التي يرأسها. ثانيها، الخلاف المسيحي- المسيحي على الحصص والحقائب والناجم من تمدّد الحضور «القواتي» في مجلس النواب. أما آخرها فهو الشهيّة المفتوحة على التوزير لدى كل القوى، خصوصاً وأنّ الجميع مقتنعون بأنّ هذه الحكومة قد تصمد الى موعد الانتخابات النيابية المقبلة ربيع 2022، إلّا في حال حصول تطوّراتٍ غير مرتقبة. وهذا ما دفع الحريري الى أن يُسِرّ بعد ساعات من بدء استشارات التأليف أنّ بورصة التوزير بلغت حتى الآن 50 وزيراً!
في مقابل تلك التحدّيات، ثمّة مؤشرات إيجابية، لعلّ أهمها حرص «حزب الله» ومعه رئيس مجلس النواب نبيه بري على تقديم كل التسهيلات الممكنة. من هنا لا أثرَ لحديثٍ عن «ثلثٍ مُعطِّل» قد يسعى الثنائي الشيعي الى حجزه في التركيبة الحكومية.
لعلّ الاثنين مرتاحان الى الغالبية النيايبة التي باتت من حصتهما في مجلس النواب ما يبعد عنهما الشعورَ بالقلق على مصير السلطة التنفيذية ومسارها، الى جانب الضمان الاستراتيجي الذي يشكّله عون بالنسبة اليهما. وقد ساهم انخفاضُ منسوب التوتر بين بري وباسيل في التقليل من عقبات التأليف.
ومع ذلك، لا يزال من الصعب التكهّن كيف سيتصرّف الحريري إزاء التحدّيات الجديدة التي تواجهه.