كتب كه يلان محمد في صحيفة “الجمهورية”:
مع أنَّ السيرة سواءٌ أكانت ذاتية أو غيرية هي جنس أدبي مستقلّ له قواعد مُحدَّدة وأساليب معروفة في القصّ والترتيب. وأشار الفرنسي فيليب لوجون إلى أنَّ عنصرَين فقط من العناصر التي أوردها في سياق دراسته لفنّ السيرة الذاتية، لا يكتملُ شكلُ السيرة بدونهما والمقصود هو التطابق بين المؤلف والراوي، وموقع الراوي وتطابقه مع الشخصية الرئيسة.
لكن على رغم هذه المحاولة لوضع شروط فاصلة لكتابة السيرة فإنَّ جورج ماي يخالفُ مواطنه الفرنسي برفضه صياغة تعريف جامع مانع للسيرة الذاتية.
السيرة الذاتية
من الواضح أنّ هذا النوع من الكتابة السيرية مذكورٌ في المراجع بإسم التراجم أو حياة الأعلام والمشاهير، وأحياناً كان الهدف من ذلك تقديم حياة نموذجية وتقريظ السلاطين والحُكّام، وشهدَت كتابة السيرة لاحقاً تطوّراً بفضل التصنيف والفصل بين أنواعه كما أنَّ نضوجَ وعي الفرد وإدراكه لخصوصيّاته الذاتية وقلقه الهويّاتي من العواملِ الداعمة لازدياد الكتب السيرية لا سيما السيرة الذاتية، ومن الطبيعي أن يكون أشهر المؤلفات التي تتناول سير أصحابها قد أبصرت النور عندما بلغ الحراك الفكري والتطلّع إلى الحرّية عنفوانه كما هو حال عصر التنوير الذي كتب فيه جان جاك روسو إعترفاتِه ونموذجَ «طه حسين» ليس ببعيدٍ فجاء نشر أيامه متزامناً مع عهد النهضة الفكرية في العالم العربي. وهذا ما يوضحُ الترابط الوثيق بين حركة الفكر وتطوّر الأشكال السردية إلى أن يكونَ السردُ خصوصاً السردُ الروائي المستوعب لكل مظاهر الحياة من أكثر الوسائط التعبيرية تغلغلاً في المشهد الثقافي. ولعلَّ غزارة الإصدارات الروائية المُستنِدة إلى سيرة الشخصيات الإشكالية والمُثيرة للجدل تُمَثِلُ رغبةً واضحةً لتحويلِ مابقي طيَّ الكتمان إلى المسرود الروائي.
المرجعية الشخصية
لا يُنكرُ معظم الروائيين عن الأخذ مِن وفاض تجاربهم الشخصية لبناء الأعمال الروائية والتعبير عن الرؤى الفكرية والرغبات على لسان الشخصيات الروائية، وقد تكون الشخصيات المبثوثة في أعطاف الأعمال الروائية وجوهاً متعدّدة لشخصية المؤلّف في أطوارٍ مُختلفة. ويمضي بعض الروائيين إلى أقصى حدّ المُكاشفة في هذا الإطار كما عَمِل محمد شكري في رواياته الثلاث (الخبز الحافي، والشطار، والوجوه) حيث تناول في الأولى مرحلة الطفولة وفي الثانية يستعيد لحظة إلتحاقه بالمدرسة ومُغامراته في طنجة وقراءاته مع المختار الحداد البصير. ضف إلى ذلك ما عاشه في المصحّة وسرده لحكاية المقيمين في هذا المكان المليء بالهواجس والأحلام المُحطّمة. وفي وجوه يقصّ حياة طنجة ونساءها في خريف العمر هذا فضلاً عن الإشارة الى ما حلّ بالمدينة من التشوّه وفقدان بريقها الساحر. ويُعدّ الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي مثالاً آخر للدفع بتفاصيل الخصوصيات الحياتية إلى متن العمل الروائي لا سيما في روايتيه (مكتب البريد، النساء). ويعودُ بول أوستر أيضاً في رواياته إلى ما ذكره في عمله المعنون بـ(حكاية الشتاء)، هنا يستحضر ما يشكل لحظاتٍ فارقة في حياته.
موت صديقه بالصاعقة ورحيل والده والإحساس الذي داهمه بأنَّه سيتنهى أجله ما أن يبلغ سنّ الوالد. وفردت الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس من جانبها روايتها (العاشق) لعرض تفاصيل حياتها والظروف التى نشأت على كنفها في فيتنام وما عانته أسرتُها من الفقر المدقع عقب موت الأب، وزاد الأخ الكبير من محنة الأُسرةِ بِمُقامراته وسكره. فوق هذا يتابعُ المتلقي قصة عشق الشاب المُنحدر من الهند الصينية للفتاة المراهقة التي ما هي إلّا مؤلفة الرواية. وتؤثث الكاتبة الإيرانية مريم مَجيدي روايتها (ماركس والدمية) بناءً على تجربتها الذاتية في المنفى وهي طفلة وهروب الأُسرة من إيران عقب قيام ثورة 1979 وخيبة أمل اليساريين بعواقب الثورة حيثُ إلتهمتهم عُتمة السجون. وكان مصير مَن لم يَذُق مرارة إيفان أشهر سجن في إيران هو المنفى والتنقل من بلد إلى آخر. يُذكر أنّ جُلَّ الروايات التي ألّفها الكُتاب الذين غادروا بلدانهم لأسباب سياسية تتميّز بطابع سيري.
الوجه الثاني
لاتقتصرُ رغبة تسريد سيرة الحياة في برواز الرواية على النهل من خزانة الكاتب وتجربته الشخصية. إنما يستلهم مادة أعماله من سيرة الآخر. وليس من المشروط أن يكون شخصية مشهورة أو نموذجية فقد إعتمد نجيب محفوظ في روايته (اللص والكلاب) على مُتابعته لشخصية المجرم الذي كانت أخباره متداوَلة في الصحف، وأنصت لما يقوله رواد المقاهي بشأن هذه الشخصية. وأرفق باولو كويلو روايته (إحدى عشرة دقيقة) بمقالٍ موضحاً أنّ ما يُتابعهُ المتلقّي بين دفّتي العمل ليس إلّا سيرةً لفتاة برازيلية سونيا مارست الدعارة في زيوريخ. ومن أشهر الروايات السيرية التي صدرت أخيراً هي ألفه الروائي الجزائري عن حياة الكاتبة اللبنانية الشهيرة (مي زيادة) حيث ركّز على معاناة صاحبة (أزاهير حلم) في مصحّة العصفورية.
هذا إضافة إلى التوقف عند السنوات التي قضتها مي في مدرسة الراهبات عينطورة ومن ثُمَّ إنتقالها إلى بيروت. أكثر من ذلك فإنّ المتلقّي يراقب حضور مي دورَها الريادي في الوسط الثقافي ويسمعُ تأنيبَ راعية صالون الأُدباء في القاهرة لأقرانها المُثقفين وتحرقها على نكران ميثاق الصداقة المبنيّة على أسس فكرية. تكمن أهمية هذا العمل في إثارة الأسئلة حول ما سُمّي بحقبة التنوير العربي ومَن مَثّل الريادة الفكرية أنذاك والرؤية السائدة عن دور المرأة المُثقفة ناهيك عن القصص المؤثرة عن النساء اللواتي تعرف إليهنّ في المصحّة ومِن أكثرها تشويقاً هي قصة إيزميرالدا. وتتوارد العبارات التي تكشف سخط مي من الشرق (لا شيءَ في هذا الشرق الذي أخفق في كل شيء حتى في أن يكون هو. خسر شرقيّته) إلى جانب كل ذلك يجوس المؤلفُ في تفاصيل حياة بطلته مبرزا علاقتها بما وصفت بالملاك الأزرق وهيلينا.
وبالطبع فإنّ الروايات المأخوذة نواتها من سِيَر المشاهير خصوصاً المتصوّفة أكثر من أن تتّسعَ لها هذه المساحة تحتاج إلى جزء آخر. ما يجدر بالإشارة أنّ ما يكسب السيرة الروائية خصوصية هو ما يتمتعُ به الكاتبُ من القدرة على لعبة التَخييل نتيجة إعفائه من ضرورة تطابق كل ما يُحكيه في عمله مع ما ذكرته كتبُ التاريخ.