Site icon IMLebanon

تداعيات كارثية لزيادة الدين العام

كتب جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:

تسارعت وتيرة الزيادة في الدين العام في الأشهر الثلاث الأولى من العام 2018 حيث بلغت 3 مليارات دولار مقارنة بمُعدّل سنوي يبلغ 3.1 مليار دولار! هذه الوتيرة تُنذر بدخول الزيادة مرحلة التصاعد «الإسّي» والتي بغياب إجراءات فعلية ستكون لها تداعيات كارثية.

يُشكّل الدين العام مع الضرائب، الوسائل المُتوفّرة أمام الحكومات لتمويل موازناتها، وتنصّ النظرية الإقتصادية أن هذه المداخيل هي الوحيدة المُتعارف عليها في ظل غياب موارد طبيعية. وبالتالي فإن تغطية إنفاق الدولة المؤلّف من الإنفاق العام وخدمة الدين العام يفرض أن تكون هذه المداخيل أعلى من إنفاق الدولة كي لا يكون هناك عجز في الموازنة.

مُشكلة التموّل من خلال الإستدانة تفرض إدارة دقيقة للإنفاق العام من ناحية أن عدم السيطرة على هذا الإنفاق يزيد من قيمة الدين العام وبالتالي خدمة الدين العام، مما يعني إنفاق الدولة الإجمالي. هذا الأمر يُدخل مالية الدولة في حلقة مُفرغة تفرض الإستدانة وتزيد الإنفاق مما يعني زيادة الإستدانة، ليدخل الدين العام في مرحلة تسارع «إسّي» (Exponential) يصعب معه لجم هذا التسارع إلا بواسطة إجراءات تقشفية شبيهة بتلك التي تحصل في اليونان والتي تفرض واقعا إجتماعيا تعيسا.

بلغت قيمة الفوائد على الدين العام التي دفعها لبنان منذ تشرين الثاني 1998 وحتى نهاية العان 2017، 71 مليار دولار أميركي! وقد بلغت قيمة خدمة الدين العام في العام 2017، خمسة مليارات دولار مقارنة بـ 195 مليون دولار تسديد أقساط ديون، مما يُظهر سرعة تسارع زيادة الدين العام الناتجة عن تحوّل خدمة الدين العام إلى دين عام.

تسارعت وتيرة الزيادة في الدين العام في الأشهر الثلاث الأولى من العام 2017، مع مُعدّل شهري بلغ مليار دولار مقارنة بـ 185 مليون دولار في العام 1998 و400 مليون دولار في العام 2016. هذا التسارع في الوتيرة هو نذير شؤم يتوجّب على الدولة اللبنانية عمل ما يلزم بهدف لجم الإنفاق وتحفيز النمو الإقتصادي لزيادة حصيلة مداخيلها من الضرائب.

ولإثبات صحّة هذا الطرح، قمنا بمقارنة الزيادة السنوية للدين العام بقيمة الميزان الأوّلي على عدّة سنوات (الرسم البياني).

تُظهر هذه المُقارنة أن إرتفاع الميزان الأوّلي يؤدي إلى خفض وتيرة زيادة الدين العام إذ يكفي رفع هذا الميزان إلى 1.5 مليار دولار لتنخفض وتيرة زيادة الدين العام إلى 1 مليار دولار سنويًا (خلال الفترة موضوع الدراسة).

هذا الأمر تُثبته أيضًا النظرية الإقتصادية بقولها أن الإنضباط في المالية العامة يتمّ من خلال القيود على ميزانية الدولة وذلك عبر تمويل النفقات الإجمالية في الميزانية لكل سنة مالية من الضرائب أو من الإصدارات لسندات خزينة والتي يُمكن وضعها في المعادلة التالية: الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.

هذه المعادلة تسمح بتفسير وتيرة إرتفاع الدين العام الذي يزيد إمّا لأن الدولة تُسجِّل عجزاً أولياً (أو أقلّ من قيمة خدمة الدين العام)، أو لأن الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو يزيد. وتطبيق هذا التحليل على الواقع اللبناني يُظهر أن إرتفاع وتيرة زيادة الدين العام اللبناني هو بسبب تسجيل الميزان الأوّلي قيمة أقلّ من قيمة خدمة الدين العام ولكن أيضًا لأن الفائدة على الدين العام هي بحدود الـ 7% في حين أن النمو الإقتصادي هو بحدود الـ 1.8%. بمعنى آخر أن الفوائد على الدين العام هي بحدود 6.6 مليار دولار مقارنة بزيادة في الناتج المحلّي الإجمالي بقيمة 1 مليار دولار! يأتي تردّي وضع المالية العامّة في لبنان من أربعة عوامل رئيسية:

أولًا: سياسة الدين العام التي اتّبعتها الحكومات المُتعاقبة والتي إنعكست في خدمة الدين العام.

ثانيًا: الوضع الإقتصادي الحالي والذي لجم مداخيل الدولة من الضرائب على النشاط الإقتصاد أي بمعنى أخر أن عجز الموازنة إرتفع بحكم الوضع الإقتصادي الحالي بمعزل عن الخيارات الهيكلية في الموازنة (مُعدّل الضرائب ومستوى الإنفاق).

ثالثًا: غياب أي خطط إصلاحية إقتصادية لزيادة حجم الإقتصاد وخفض عجز الميزان التجاري مما أدّى إلى تآكل هيكلي في الإقتصاد نتج عنه تحويل هذا الإقتصاد إلى إقتصاد ريعي.

رابعًا: سياسة إنفاق عامة أخذت منابعها من ثقافة «الوفاق الوطني» بُعيد الحرب الأهلية والتي رفعت مستوى الإنفاق الهيكلي في الموازنة إلى أرقام تفوق قدرة الدوّلة. هذا الأمر بالتزامن مع حرمان الخزينة العامّة من مليارات الدولارات نتيجة التهرّب الضريبي والفساد المُستشري مما ألغى أي قدّرة للدولة للقيام بأية إستثمارات بهدف تحفيز النمو الإقتصادي بحسب ما تنصّ عليه نظرية «كينز».

يؤيّد «كينز» بشدّة فكرة السياسات المالية المُضادّة للدورات الإقتصادية والتي يُمكن إعتبارها من أهمّ طروحات «كينز». فبالنسبة لهذا الأخير العجز في الموازنة بهدف الإستثمار والتحفيز الضريبي في فترات الركود الإقتصادي هو أمر يتوجب على الدولة القيام به على أن تكون زيادة الضرائب في فترات النمو القوي للجم التضخم وتهدئة الإقتصاد ومنعه من الغوص في أزمات إقتصادية ومالية، من الأمور الواجب القيام بها. ويُبرر «كينز» ذلك بقوله أن توازن المالية العامة للدولة (أي عجز الموازنة) ليس بالمقياس الصحيح لسياسة الحكومة المالية.

تثبت أرقام الموازنة عدم قدرة الدولة على القيام بأية إستثمارات ولا حتى أي تحفيز ضريبي يُذكر، كما أن إستمرار الوضع على ما هو عليه يعني وبدون أدنى شكّ إرتفاع الضرائب في الأشهر والأعوام القادمة عملا بالمبدأ الإقتصادي «دين اليوم هو ضرائب الغد». لذا نرى أن أمام الحكومة إجرائين يتوجّب عليها القيام بهما:

أولًا: تفعيل جدّي وشفاف للشراكة بين القطاعين العام والخاص في كل ما يخصّ المشاريع العامة وعلى رأسها الطاقة ولكن أيضًا البنية التحتية التكنولوجية وحتى مشاريع لها صفة عامة-خاصة. هذا الأمر يسمح للدولة بتفادي الإستدانة بهدف القيام بإستثمارات، لكن في المقابل المفروض تدعيم الشفافية، محاربة الفساد وتحسين مناخ الأعمال.

ثانيًا: وضع سياسة ضريبية تحفيزية لجذب الإستثمارات مع سقف ملياري دولار أميركي كحدّ أقصى لقيمة إستثمارية تبلغ أقلّه 13 مليار دولار أميركي. والعجز الناتج عن هذا الإستثمار يُمكن تعويضه بزيادة الضرائب في فترات النمو الإقتصادي العالية (أكثر من 4%).

في الختام لا يسعنا القول إلا أن الوضع المالي الحالي للدولة اللبنانية هو أمر غير مقبول ويتطلّب إجراءات سريعة. وإذا إستطاع مصرف لبنان بفضل سياسة الثبات النقدي، المحافظة على مستويات مقبولة من الفائدة مُقارنة بنسبة المخاطر، إلا أن إستمرار الوضع المالي على ما هو عليه سيكون كارثي على كل الأصعدة.