كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
في عقد من الزمن هو عمر اتفاق الدوحة حتى الآن (2008 ـ 2018)، وهو لمّا ينقضِ، تعاقبت خمس حكومات للرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام ثم الحريري مجدداً، أهدروا 710 أيام في سبيل تأليف حكوماتهم من بين الحكومات الخمس منذ اتفاق الدوحة، أربع أولى في عهد الرئيس ميشال سليمان استغرق تأليفها 634 يوماً. في حساب بسيط، تفضي إلى سنة و9 أشهر و6 أيام من تصريف الأعمال، ما يعني أيضاً أن نحو ثلث ولاية رئيس الجمهورية مرّ في فراغ حكومي كامل. تطلّب تأليف الحكومة الثانية للرئيس سعد الحريري عام 2016، في مطلع عهد الرئيس ميشال عون، 76 يوماً. أما إذا كان لا بد من احتساب الوقت الذي استغرقه تأليف الحكومات الخمس منذ عام 2008، فالرقم هو 710 أيام، أي ما يوازي سنتين و20 يوماً. بذلك يكون عبر نحو خمس عقد من الزمن في حكم لبنان، منذ اتفاق الدوحة، والبلاد بلا حكومة، وفي أحسن الأحوال في ظل حكومات تصريف أعمال.
الرقم 76 لتأليف الحكومة الحالية للحريري، ليس كارثياً وفق أعمار تأليف الحكومات السابقة. أفضلها الحكومة الثانية للرئيس فؤاد السنيورة 44 يوماً، وأسوأها حكومة الرئيس تمام سلام 10 أشهر و9 أيام.
حتى الآن انقضى في عمر التأليف، منذ التكليف في 24 أيار، 25 يوماً فقط. إذاً، لا يزال الحريري في المدار الطبيعي. الاثنين الفائت (11 حزيران) قدّم إلى رئيس الجمهورية مسوَّدة تصوره لتوزيع الحصص على الكتل المرشحة للتوزير في الحكومة. ومن المنتظر أن يمرّ أكثر من أسبوع جديد بلا جدوى، كي يوشك على انقضاء الشهر الأول، وربما أكثر، للتكليف من دون أن تكون ثمة حكومة جديدة.
ما يبدو معلناً في مسار التأليف أن دورانه هو حول حصص الكتل، دونما الخوض بعد في الحقائب والأسماء. بيد أن المثير في ما يجري في خفاياه، أنه استثنى باكراً من التفاوض بضعة معطيات أضحى التعاطي معها كأنها أمر واقع حُسم نهائياً في معظمه:
1 ـ الحقائب السيادية الأربع بين أيدي أصحابها إياهم في حكومة تصريف الأعمال: الدفاع لرئيس الجمهورية، الخارجية للتيار الوطني الحر، المال لحركة أمل، الداخلية لتيار المستقبل. في الظاهر، هي حقائب الطوائف الأربع الرئيسية، لكن في أصل التوزيع مناصفة بين ثلاث قوى فقط: رئيس الجمهورية وحزبه على أنه وحده ممثل المسيحيين، والفريقين الشيعي والسنّي.
2 ـ مع أنها ليست حقيبة ولا تعدو كونها سوى مقعد، بلا صلاحيات في النص كما في العرف كما في الممارسة كما في التقاليد، وليست كذلك سوى تعيين ترضية وهمية، فإن نيابة رئاسة الحكومة تُحتسب من الآن في حصة رئيس الجمهورية الذي أعدّ سلفاً لها شاغلها، وهو، على الأرجح، مستشاره للشؤون الدولية الوزير السابق الياس بوصعب.
3 ـ بُتّ أيضاً بعض الحقائب، كما لو أنها باتت في رزمة الحقائب السيادية، من دون أن تكون كذلك. بل ثمة مَن يقاربها على أنها ــــ كالحقائب السيادية ــــ أصبحت بدورها حقاً مكتسباً ودائماً للأفرقاء الذين يشغلونها، فلا يتنازلون عنها: كالاتصالات لتيار المستقبل الذي لا يتزحزح عنها، والطاقة والمياه للتيار الوطني الحر الذي لا يتزحزح عنها أيضاً. وبحسب ما يقوله الرئيس نبيه برّي، فإن حقيبة الصحة ذاهبة، هذه المرة، إلى حزب الله انسجاماً مع اتفاقه مع حزب الله الذي يصرّ على الحصول على حقيبة خدماتية أساسية، فيما يتردد أن حقيبة الاقتصاد معروف سلفاً وزيرها في حصة التيار الوطني الحر من غير حزبييه.
4 ـ تبقى ثمة حقائب ثلاث رئيسية، اثنتان منها مدرارتان بوفرة، هما الاشغال العامة والشؤون الاجتماعية، إلى ثالثة هي العدل من المرجح أن تكون كذلك في حصة حزب رئيس الجمهورية بسبب الترابط الحاد بين الأمن والقضاء. الواضح أن حزب القوات اللبنانية يطالب بهما معاً بعدما جرّب فاعلية الشؤون الاجتماعية، ويطلب الآن تعويضه حقيبة الصحة ـ إذا لم يستعدها ـ بالأشغال العامة والنقل. بدوره تيار المردة عينه على الثانية.
مغزى ذلك كله، قبل الوصول إلى إنزال الحقائب في حصص الكتل المستوزرة، أن أكثر من الثلث الرئيسي «السمين»، الفاعل والنافذ ــــ وهو ما برهنته في أحسن الأحوال نتائج الانتخابات النيابية ــــ قد ذهب سلفاً إلى القوى الرئيسية التي تمسك بعنق الحكومة: رئيس الجمهورية وحزبه، ورئيس المجلس وحليفه حزبه الله، ورئيس الحكومة وحزبه.
بيد أن المعطيات تلك ليست وحدها تتحكم بتأليف الحكومة، ولا الشروط المستعصية الحل التي تتبادلها الكتل في الإصرار على تحديدها هي بنفسها ــــ وتبعاً لتقديرها ــــ حجمها ومكانتها وحصتها. ليس الرئيس المكلف مَن يتحكم بالتأليف رغم الصلاحية الدستورية المنوطة به في هذا الصدد، وقد خبر الحريري عامي 2009 و2016 كما أسلافه جميعاً بلا استثناء منذ اتفاق الدوحة، واقع تأليف الحكومة الذي أضحى قراراً جماعياً تشارك فيه الكتل الكبرى: تقاسمه الصلاحية الدستورية في تعيين الحصص والمقاعد وفرض الأسماء حتى.
في ضوء التجربة الجديدة للرئيس ميشال عون منذ حكومته الأولى عام 2016، يتمسّك بحصة وزارية ثابتة ووازنة، ويريد من فرضها أن تمسي عرفاً دائماً في ذاته، ترافق منذ الآن أي استحقاق مماثل مستقبلاً. الحصة التي يطلبها الآن 6 وزراء بينهم 4 مسيحيين، ناهيك بحقيبة سيادية هي الدفاع.
تكمن أهمية ما يصرّ عليه الرئيس في أنه:
هو الذي يحدّد، أولاً، لنفسه حصته مقاعد وحقائب، وليس الآخرون يمنحونه أياها، على طرف نقيض من سلفه الرئيس ميشال سليمان الذي أعطاه اتفاق الدوحة ثلاثة وزراء فقط كي يفصل بين قوى 8 و14 آذار فحسب، من دون أن تعني أنها حصة الرئيس لأنه الرئيس في ذاته ويتقدّم سواه في المكانة. ثم درجت الحصة مع الحكومات اللاحقة للمهمة نفسها ليس إلا.
حصة الرئيس، ثانياً، هي الحصة الأولى في التأليف وليست الأخيرة. هي أيضاً في منزلة توقيعه الدستوري مراسيم تأليف الحكومة الجديدة. كما أن لا مراسيم بلا توقيعه الملزم، لا حكومة جديدة بلا حصته الملزمة للآخرين أيضاً. وزراؤه، حصته الوازنة في مجلس الوزراء المتحالفون مع آخرين، هم صوته لكونه لا يصوّت.
حصته، ثالثاً، مستقلة في ذاتها، منفصلة عن أي حصة أخرى مضمرة في حساب أحد آخر. ليس بين وزرائه ودائع، شأن عدنان السيد حسين في حصة ميشال سليمان في حكومة 2011، تبيّن لاحقاً ــــ عندما انضم إلى استقالة وزراء المعارضة لإطاحة رئيس الحكومة عام 2013 ــــ أنه في الأصل في حصة الثنائي الشيعي، وليس أحد آخر. حصة الرئيس أيضاً ليست في حصة حزبه، التيار الوطني الحرّ وحلفائه في مجلسي النواب والحكومة.