كتبت غادة حلاوي في صحيفة “الأخبار”:
هو التخلي. العدم. الكفر. التآمر. العجز. اللامعقول. هو زمن المافيات. العصابات. أنت لست في بلاد بعلبك ولست بين العائلات والعشائر. هذه ليست عادات وتقاليد وشيم من كانوا سباقين تاريخياً، لا بل مندفعين إلى حد الاستشهاد دفاعاً عن قراهم ووطنهم في مواجهة المستعمرين والمحتلين. نعم، ليس بتبويس اللحى ولا بالخطط الأمنية الشكلية ولا بالعناوين السياسية البراقة، يُوضع حد لمسلسل الانتحار اليومي. صار المطلوب قراراً سياسياً كبيراً، لا يمكن أن تتخذه حكومة ولا برلمان ولا رئاسة جمهورية. هو قرار لا بد أن يتخذه المعني الأول بمصائر هؤلاء الناس الطيبين الفقراء ممن يذهبون يومياً ضحية السلاح والمسلحين والعصابات وقطاع الطرق وتجار الفدية وسارقي السيارات.
لعل أفضل توصيف لواقع بعلبك ـــــ الهرمل ما يردده أحد أبناء المنطقة: «منطقتنا صارت كالبحر، السمك الكبير يأكل الصغير». الحوادث الأمنية تسجل أرقاماً قياسية. بالنسبة للأهالي، الكلّ في دائرة الاتهام، من سياسيين وأحزاب وأجهزة أمنية، وصولاً إلى المرتكبين المباشرين، في المقابل، ثمة تركيبة أمنية في المنطقة تثبت كل يوم أنها عاجزة في غياب القرار السياسي والإنماء.
في عهده، استطاع الرئيس الراحل فؤاد شهاب أن يشرك العشائر في الدفاع عن فكرة الدولة. أمّن لهم المدارس والطبابة وخطوط الهاتف وجرّ الكهرباء إلى الهرمل وشق طرقات بلغت بعض المزارع والجرود. الأهم أنه جنّد الشباب العاطلين من العمل لمصلحة «المكتب الثاني» (مخابرات الجيش)، فصاروا مسؤولين عن الأمن ويبلغون عن المخلين به أو من يزرعون حشيشة الكيف.
يذكر أحد وجهاء العشائر هذه الرواية ليدخل منها الى الإشارة إلى «تقصير الدولة وغيابها المتعمد عن البقاع الشمالي»، متهماً «الأجهزة الأمنية بالتواطؤ مع المطلوبين والمخلين بالأمن فيتم تقاضي مبالغ مالية طائلة مقابل تهريب المخلين والمخالفين والمجرمين».
يروي أن المطلوب وقبل أن تداهمه القوى الأمنية يأتيه من يؤمّن هربه، وأحياناً كثيرة يكون سطح المخفر هو المكان الآمن الذي يلجأ إليه إلى أن تهدأ المداهمات. معظم المطلوبين في بعلبك والهرمل صاروا خارج المنطقة بعد أن أبلغتهم جهة رسمية ما عن قرب العملية الأمنية وتقاضت بدلاً لتأمين خروج آمن لهم إلى سوريا.
لا توجد جهة واحدة متهمة بحماية المطلوبين والتسبب بالفلتان الأمني في بعلبك ــــ الهرمل. الكل في دائرة الاتهام وإلا من أمَن انتقال كبار المطلوبين الخطرين من المنطقة إلى داخل سوريا؟ ومن أعطاهم هويات بغير أسمائهم الحقيقة ليؤمن لهم الهرب؟ ومن أمن لهم بطاقات أمنية تسهل عبورهم؟ وكيف لمطلوبين بقضايا مخدرات وفارين من وجه العدالة أن يزوروا مراكز أمنية ومؤسسات عسكرية؟ وكيف يتعرض أحد المواطنين من آل اللقيس للسرقة وتحتجز زوجته رهينة سلاح ومسلحين بينما لا يبعد منزله أكثر من 500 متر عن حاجز للقوى الأمنية، قررت ألا تحرك ساكناً؟
طالما أن منازل أخطر المطلوبين في بعض المناطق معروفة وأرقام هواتفهم مُعلنة ويمكن تعقبها، لماذا لا تتم مداهمتها؟ وكيف لضابط سبق وأوقف لتهريبه المتهم (ع. م.) أن يطلق سراحه ويعود إلى وظيفته وما هي وظيفة هذه الرسالة أم أن العشيرة والعائلة كفيلة بالحماية ونقطة على السطر؟
هذه الاسئلة ــــ الاتهامات تعني أن الناس ما عادوا يحاذرون في حديثهم عن واقع منطقتهم أي محظور أو خط أحمر. هم لا ينتظرون إجابات، بما أنهم يعرفون كلّ شيء ولا يترددون حتى في تسمية الأشياء بأسمائها، مسجلين عتبهم على الجميع، من دون استثناء.
تعرف القوى الأمنية أنه يوجد في البقاع الشمالي عدد من معامل الكبتاغون المعروفة العنوان «لا بل إن بعضها يعمل بتغطية من عناصر وضباط أمنيين». هنا، يتهم الأهالي دولتهم بأنها «غير صادقة في خطتها الأمنية وإلا ما معنى إرسالها خبراً إلى عدد من المطلوبين للهرب قبل تنفيذ الخطة بأيام؟» ويسأل أحدهم: «حين تصادر القوى الأمنية كمية من المخدرات لماذا لا تقوم بتلفها، بل تتلف التبن والطحين مكانها في حين تباع المخدرات المصادرة بأسعار مخفضة»؟
بدوره، يتحدث أحد وجهاء مدينة بعلبك عن «مافيا لسرقة السيارات معروفة الأسماء، تنقل السيارات المسروقة إلى سوريا فيتم تسجيلها وبيعها على أنها سيارات سورية». أكثر أنواع السيارات التي تتم سرقتها هي جيبات GMC وX5. أحد تجار السيارات تعرض للسرقة 3 مرات خلال شهر واحد وهو يعرف السارق وكاميرات المراقبة في معرضه سجلت عمليات السرقة. يخشى أن تتسبب شكواه المتكررة إلى القوى الأمنية بغير المرتجى منها!
كان لافتاً للانتباه ازدياد الحوادث الأمنية بعد الانتخابات النيابية مباشرة، من عمليات إطلاق النار في أسواق بعلبك إلى تزايد ظاهرة فرض الخوات وسرقة السيارات واشتباكات العشائر في أكثر من بلدة، وكلها أحداث تشعر الأهالي كأنهم يقيمون في بعض أحياء شيكاغو أو في صقلية في زمن المافيات.
قبل يومين، مرّ موكب أمني للجيش في مدينة بعلبك. عشر سيارات عسكرية ظنها الأهالي بداية خطة أمنية في المدينة، فإذا به مجرد موكب لهيئة دبلوماسية تزور قلعة بعلبك. الوقائع كثيرة. تشي بأن ثمة تركيبة أمنية «لم تعد صالحة لحفظ الأمن الداخلي، مخافر الدرك غير مجهزة بالإمكانات والعناصر والجيش لا قرار سياسياً بتغطية تدخله»، يقول مصدر أمني معني في المنطقة.
خطة أمنية غير تقليدية
وعلمت «الأخبار» أن قائد الجيش العماد جوزف عون، وخلال استقباله، أمس، في مكتبه في اليرزة، وفد تكتل نواب بعلبك ــــ الهرمل برئاسة الوزير حسين الحاج حسن، تمنى على الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في المنطقة مؤازرة الجيش من أجل وضع حد للتفلت الأمني الذي تعاني منه المنطقة.
وتحدث عون عن عادات اجتماعية وثقافات معينة تحكم العلاقات بين الناس لا تستطيع القوى الأمنية مواجهتها. فأجابه أحد النواب أن هذه واحدة من المشاكل فيما بمقدور القوى الأمنية أن تبسط سيطرتها على المنطقة وتؤمن الحماية لأهلها من خلال ملاحقة المخلين بالأمن، خصوصاً أن الأحزاب رفعت الغطاء السياسي عنهم وهي في صدد المساعدة في توقيفهم.
وفاتح النواب قائد الجيش بوجود ضباط وعسكريين متورطين في عمليات تهريب مطلوبين مقابل مبالغ مالية، فأجاب عون: «أعطوني أسماء المتورطين وسأقطع رؤوسهم».
ولمّح قائد الجيش إلى خطة أمنية قربية سيتولى تنفيذها ضباط من خارج المنطقة ولن تتم بطريقة تقليدية ولن يحدد لها وقت معين تجنباً لتواري المطلوبين.