كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
بات الرئيس المكلف سعد الحريري، أياً يكن ــــ مجرِّباً أو للمرة الأولى ــــ يتعامل مع تأليف الحكومة على أن الوقت متاح. مفتوح بلا مهل. لا قيد دستورياً أمامه، ولا أحد قادراً على إرغامه ــــ إن لم يشأ هو ــــ على التخلي عن تكليف الغالبية النيابية إياه
ليس في وسع رئيس الجمهورية ميشال عون تقصير التكليف. لا سابقة في الحياة الدستورية اللبنانية، منذ اتفاق الطائف، أن استرجعت الغالبية النيابية من الرئيس المكلف تأليف الحكومة التكليف. حتى إشعار، تظل ساعة التكليف في معصمه وحده. من دون أن ينص عليه الدستور، بات مثابة «فيتو» يملكه الرئيس المكلف، يماثل الصلاحية المعطاة لرئيس الحكومة بإعلان استقالتها ساعة يرتئي.
حتى الآن، ليس ثمة ما يبرّر القول إن التكليف طال أكثر مما يقتضي. وهو ليس كذلك أبداً. لم يستعصِ، ولما يتجاوز شهره الأول. سبق للرئيس سعد الحريري أن اختبر هذا «الفيتو» عام 2009 عندما اعتذر بعد 80 يوماً على التكليف الأول، ثم أُعيد تكليفه إلى أن تمكن من تأليف حكومته الأولى في اليوم الـ135 في عهد الرئيس ميشال سليمان. كانت، كالآن، حكومة ما بعد الانتخابات النيابية. ليست أولى حكومات العهد.
ما اعتاد عليه تأليف الحكومات في الظاهر، أن الأولى في عهد رئاسي جديد يقتضي أن ترتكز على إرادتي رئيس الجمهورية الجديد وأول رئيس حكومة يتعاون معه، بغية منح العهد الجديد فرصة الانطلاق، وأن ترتكز أولى الحكومات بعد الانتخابات النيابية الجديدة على نتائج الانتخابات تلك في توزير الكتل الكبيرة الرابحة.
على نحو كهذا، عُدّت حكومة الحريري عام 2016 تتطابق مع مواصفات تسوية انتخاب الرئيس ميشال عون عامذاك. ويُنظر الآن في تأليف الحكومة الجديدة على ضرورة أن تطابق نتائج انتخابات أيار 2018، والأخذ في الحسبان أحجام الأفرقاء الرئيسيين.
للمرة الثانية، يجبه الحريري المشكلة نفسها. عام 2009 خرج وفريق 14 آذار من الانتخابات النيابية عامذاك بغالبية مرجحة، من غير أن يتمكن من ترجمة هذا الفوز الكبير في السلطة الإجرائية التي يرئس، فأُرغم على إعطاء معارضيه الثلث +1. وهو اليوم يذهب إلى ترؤس حكومته الثالثة، في ظل نتائج معاكسة تماماً لانتخابات 2009. لم يعد ثمة وجود لقوى 14 آذار التي تفرّقت، وبات أفرقاؤها المؤسسون منذ عام 2005 لا يطالبون بحصصهم سوى كممثلين لطوائفهم، شأن ما يفعل ثلاثة أقطاب فيها سابقين كالحريري نفسه ووليد جنبلاط وسمير جعجع. في المقابل، خرج الفريق الآخر ــــ أفرقاء 8 آذار سابقاً ــــ أحسن حالاً في تماسكه. في وسعه أن يزعم أنه هو الذي يمتلك الغالبية النيابية للمرة الأولى منذ عام 2005، من خلال أوسع مروحة من الحلفاء بمَن فيهم رئيس الدولة.
عوض أن يعثر الحريري ــــ كما في استحقاق 2009 ــــ على نفسه يفاوض بصعوبة وشقاء خصومه كي يمنع عنهم الحصة المرجحة في الحكومة الجديدة، يجد نفسه في استحقاق 2018 يفاوض بصعوبة وشقاء أيضاً مَن كانوا حلفاءه السابقين على توزيع حصصها ومحاولة استرضائهم.
هي حاله مع جنبلاط وجعجع: الأول، يطلب حصر الحصة الدرزية به وحده كونه يمسك بسبعة من المقاعد الدرزية الثمانية في البرلمان، والثاني، يطلب مضاعفة حصته المسيحية كون كتلته النيابية انتفخت ضعفين عن ذي قبل. إلا أن هذه أيضاً حال الحريري مع نفسه بإزاء الحصة السنّية التي يريد أن يستأثر بها بمفرده، كونه التنظيم السنّي الأكثر تمثيلاً لطائفته في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة. لا يلبث أن يصطدم بثلث النواب السنّة من خارج تياره.
ما بات مختلفاً الآن في مسار تأليف الحكومة الجديدة، أن الرئيس المكلف ــــ وإن منحه الدستور صلاحية وضع مسودتها ــــ محاصر بأفرقاء رئيسيين، شركاء دستوريين كرئيس الجمهورية أو واقعيين كالثنائي الشيعي، لا يقايضونه بمقاعد طائفتهم فحسب، بل «تحصيلهم» هم حصص أفرقاء يُنظر إليهم على أنهم «ضعفاء» أو «مستضعفون»، ينكرها عليهم الحريري أو تحرجه حيال حلفائه:
1 ـ رئيس الجمهورية يصرّ على أن يكون ذا رأي في المقعد الدرزي الثالث في الحكومة الجديدة، كي يذهب من جنبلاط ــــ صاحب الحق الواقعي ما دام الأكثر تمثيلاً لطائفته ــــ إلى النائب طلال ارسلان الذي فاز بمقعد نيابي شاغر. حجة غالباً ما طارد الجنبلاطيون الارسلانيين بها منذ الحقبة السورية، وبالذات انتخابات 1992 والاستحقاقات التي تلتها، حيال ترك هذا المقعد الشاغر ما خلا انتخابات 2005 حينما خسر ارسلان مقعده في دائرة بعبدا ــــ عاليه، بعدما أقفلها جنبلاط تماماً في وجهه.
الواقع أن الحجة التي يتسلح بها جنبلاط للوصول إلى المقاعد الدرزية الوزارية الثلاثة، هي نفسها التي يتذرّع بها الحريري كي يقول إن المقاعد السنّية الستة في حكومته هي له، كونه الأكثر تمثيلاً لطائفته في مجلس النواب بين منافسيه. إلا أنه مستعد لمقايضة مقعد سنّي لرئيس الجمهورية بآخر مسيحي يحصل عليه من حصته.
مع ذلك لا يتساوى الرئيس المكلف والزعيم الدرزي المتقاعد في هذا الحساب. تخلى جنبلاط إرادياً عن المقعد الثامن، في وقت خسر الحريري بالمنافسة والمواجهة ثلث المقاعد السنّية.
2 ـ مع أن حزب الله وحركة أمل، في الظاهر، الأقل تطلّباً في الحصة الحكومية بعدما رسم «الثنائي» دونها خطوطه الحمر التي لم يقفز فوقها الرئيس المكلف، بل وافق عليها سلفاً: المقاعد الشيعية الستة في سلة حركة أمل وحزب الله فقط ولا وزير شيعياً خارجهما، حقيبة المال تبقى عند الرئيس نبيه برّي، حقيبة الصحة لدى الحزب هذه المرة. أما ملء الحصة المتبقية، وهي أربعة مقاعد، وفق ما يردّده رئيس المجلس، فليس بذي بال. على غرار حقيبتي الداخلية والاتصالات لتيار المستقبل وحده فقط، وحقيبتي الخارجية والطاقة للتيار الوطني الحر وحده فقط، فإن الثلث المهم الثالث (المال والصحة) فهو من نصيب الثنائي الشيعي.
بعدما حُسم هذا التوزيع، لا عقبة شيعية على غرار الدرزية والسنّية والمسيحية، في مسار التأليف. لكن الثنائي الشيعي يعدّ نفسه معنياً بتوزير حلفائه النواب السنّة بعدما تمكّن معهم ــــ بتحالف مباشر أو غير مباشر ـــــ في بيروت وطرابلس وصيدا والضنية والبقاع الغربي من انتزاع ثلث المقاعد السنّية الـ27 من سيطرة الحريري عليها، فيما ثمة نائب سنّي عن بعلبك ـ الهرمل في الكتلة النيابية لحزب الله.
من غير الواضح أن الثنائي الشيعي في واجهة الاشتباك مع الرئيس المكلف على توزير الفريق السنّي المعارض له، بيد أن من الواضح تماماً أنه يدعم مطلب هذا الحليف، ويصرّ على حصته في طائفته داخل الحكومة الجديدة إذا أريد لها أن تبصر النور.