كتبت راكيل عتيق في صحيفة “الجمهورية”:
خَرطشَ إنسان على ورقة، وخلق وطناً اسمُه لبنان. و»بَعدو عاصي الرحباني عَم يِمشي»، و»بَعدو الحِلم ساكن فينا»، حتى بعد اكتشافنا أنه كذبة: لبنان. وسندع هذا الحُلم يأخذنا مشاوير صباحية إلى لبنان الكذبة ويسرقنا من لبنان الواقع الحقيقة المخيّبة… «تَتِبقى الكذبة كذبة».
بعد عام 1986 لم يعد 21 حزيران يوم عيد الأب فقط. 21 حزيران من كلّ عام سخّر نفسه ذكرى أبدية لخالق الهوية الموسيقية اللبنانية وأب المسرح الغنائي اللبناني عاصي الرحباني. ذاك القاسي في العمل، الدقيق، المثالي، خالق ومُراقب كلّ «شاردة وواردة» في أعمال الأخوين، وأعمال فيروز.
الألحان التي ينتقيها من آخرين ليحملها صوتُ فيروز أو مسرحياتُ الأخوين «تَترحبن». في المسرح هو الكاتب والمُلحّن والموزّع والمخرج والمُصوّر ومدير الممثلين ومُصمّم الأزياء… وقائد الأوركسترا ومُحرِّك الأجساد والأرواح.
المَسرح هُو، وهُو مُتجسّدٌ في المسرح. نتيجة قسوة طفل الوَعر الذي لا يَكبر على اللعب والبساطة، السارح في الكون، والدماغ الذي يضخّ حناناً ويخلق جمالاً وينسج طمأنينة الأب… نتيجة قسوة عاصي في العَمل، 25 مسرحية و3 أفلام، وآلاف الأغنيات… واجتماع أعظم الأسماء في لبنان على خشبة المسرح في لحظةٍ واحدة، أضحت ذكرى تاريخية. نتيجة قسوة عاصي… أجمل ما في نهاد حداد… فيروز.
أن نتحدّث عن عاصي الرحباني، يعني أن نتذكّر الحُلم، وزمن الإبداع، وأصالة الأرض والفن… عاصي الرحباني الـ«خالق» في عالم الفن. كلّ عمل للأخوين من ألفِه الى يائه، مُستوحى من دماغٍ خلقه الله أكبر من أدمغة غالبية البشر.
خلق عاصي مسرَحاً – وطناً، خرطش على الورق فصنع تلالاً وودياناً وبلداً صغيراً، طرقاته خضرا وسطيحاته حمرا، وناسه من موهبة لامعة… لنعدّ الأسامي. عدد من هؤلاء كان يقف مع فيروز على خشبة المسرح في اللحظة نفسها.
نصري شمس الدين، فلمون وهبي، وديع الصافي، صباح، جوزيف ناصيف، إيلي شويري، هدى، جوزيف صقر، ملحم بركات، زياد الرحباني… أنطوان كرباج، وليم حسواني، إيلي صنيفر، برج فازليان… وقائد الأوركسترا، رجلٌ صامت يقف في الخلف يُحرّك عصاه مُبتسماً، فيخلق «لبنان» ويحبسنا داخل الكذبة. لبنان الحُلم، كذبة الأخوين «البيضا».
في مسرحية «بترا»، تُضحّي الملكة بابنتها من أجل انتصار المملكة… وعند استقبال زوجها الملك العائد منتصراً، تغنّي له بحرقة الفقدان الأبدي «وجعك للناس ولادك للناس يا ملك اللي متوَّج عهموم الناس».
في «ناطورة المفاتيح» وبعد هجرة الشعب بسبب بطش الملك وظلمه، ينادي الملك شعبه ويسأله العودة فلا يُمكنه أن يحكم «عالعشب والحيطان»، وينزع الظلم عنه.
في «بياع الخواتم» يظهر «راجح» ويُعاقَب مَن استغلّوا «خبرية راجح» وارتكبوا على اسمه المخالفات والجرائم و«زعزعوا أمن القرية».
في «ميس الريم» ينتصر الحب على الخلافات العائلية وعلى رغبات «المتنفّذين». في «أيام فخر الدين» (القصة الحقيقية الوحيدة… ما قبل لبنان الكبير) يعرف الأمير عند أيِّ حدٍّ يتوقف ويُضحّي بحياته كي «لا يتدمّر اللي تعمّر». في «جبال الصوان» لا تموت الثورة مع موت قائدها، وتصبح هي الدم الرابط بين «ولاد مدلج»، ولا يُسمح لأحد من «برّا أن يحارب جوّا».
في «لولو» يغلب الوفاء ولا يُسوّد الظلم القلوبَ النقية النظيفة، وتنتصر العدالة مهما طال الوقت ومهما كانت كرتونية. في «هالة والملك» يُسامح الملك الكاذبين والطمّاعين والسارقين والنصابين… «لأن إذا حبسن عمين بدو يحكم» فلا أعلى من منصب الملك إلّا «المشي»، وفي «هالة والملك» المخدّة العتيقة دافئة أكثر من قصر الملك.
في «الشخص» يُفضح الفساد. في «يعيش يعيش» يُفضح الثوار والحكام والشعب والمعارضون! ويضيع شادي. في «صح النوم» يعود ختم المعاملات إلى أيدي الشعب، الحاكم الحقيقي. في «ناس من ورق» مهزلة الانتخابات و«النزلة والطلعة». في «ناس من ورق»، «علمّتني حلوة الحلوين إن فليت إترك عطر بهالكون».
في «المحطة» الإيمان الصادق يزرع محطة و»ترين» وأمل وأفاق وسَفر وحُلم… وفي «سفر برلك» و«بنت الحارس» و«الليل والقنديل»، وفي «الليالي اللبنانية» وفي كلّ أغنية وحرف وآه من صوت فيروز، في كل نوتة وما بين وتر عود ورقصة قانون… «لبنان أخضر حلو» والشعب الثائر العنيد. لبنان الذي لم يَكُن مرة.
فلبنان الحقيقي رُكِّب من تناقضات وتفرقة وتمييز وخُبث… لبنان الحقيقي دُمِّر بأيادي أبنائه، «الطويلة» أو المتقاعصة. أما لبنان الأخوين فخُلِق من دماغ عاصي وشِعر منصور وصوت فيروز.
حمّل عاصي لبنان الجمال والنقاء والطيبة والأصالة. وبدأ هذا اللبنان حُلماً ليتحوّلَ وهماً ويُصبح… كذبة. أجمل كذبة و«الكذبة مِش خطيّة»، وأذكى «خبرية» حاكها عاصي الذي ما زال يمشي. فما خلقه لا يُمكن تدميرُه أو تشويهُه… وما حمله صوتُ فيروز لا يسرقه النسيان، و»ما بتُخلص الخبرية» لا بعد 32 عاماً ولا حين تبرد الشمس وتنهمر تكاسلاً في أحضان الواسع. فقد يحجب القمر ضوءَه عن الناس «اللي بيتقاتلوا»، ويبقى صوتُ فيروز المُسافر الأبدي بين الوجوه، وأعمال الأخوين مُستوطنة ذاكرة الهواء.
عاصي الرحباني خلق هويّتنا الفنية وكشف لنا الحقائق الاجتماعية – السياسية بالطرب البسيط الصافي. الإبداع غير مقتصر على الشعر واللحن، وإنّ التوزيع من اهم عوامل نجاح الأغنية وإيصالها إلى الناس، والاخوين تميّزا بتوزيعٍ موسيقيٍّ فريدٍ وخاص. فـ«طعّموا» اللحن الغربي بسِحر الآلات الموسيقية الشرقية وحمّلوه أجمل الكلمات، لنسمعَها بالصوت الأعظم.
البساطة بكلّ شيء، الكلام والتوزيع الموسيقي والإخراج والأداء… العمق والفهم لدرجة التبسيط، كي يصلَ المضمون بكلّ ما فيه من عِبر وحِكم ورسائل وحتى فلسفة… هذا كان نهج الثلاثي.
طوّر الأخوان رحباني الفولكلور، فأخذاه بصيغته البكر ونقّياه من فواصل غير ضرورية وأعادا كتابة الفولكلور القديم مُطوَّراً بالنكهة الرحبانية العصرية. كانا يأخذان الموشحات الأندلسية ويضيفان مقاطع من الموشحات على الوزن نفسه والقافية نفسها… فنستمع إلى الموشح الأندلسي اليوم ونعتقد أنه للشاعر الأندلسي، بينما الواقع أنّ هذا الموشح جزء منه للشاعر الأندلسي وجزء حديث هو من شعر الأخوين رحباني.
في الحياة كما في الفن، سرعة البديهة وإيجاد الحلول السريعة المجدية في أيّ ظرف، أمور تَميَّز بها عاصي الرحباني.
وينقل الشاعر هنري زغيب عن منصور قوله إنّ عبقرية عاصي كانت فريدة في الكتابة وفي التلحين وفي الإخراج…. لذلك حتى يكون عمله تاماً ومثالياً كان يقسو أوّلاً على نفسه ثمّ على الآخرين، بدليل أنّ الكثير من أغنيات العظيمة فيروز كانت تُسجَّل أكثر من مرة، علماً أنّ تسجيلها كان جيداً وبشهادة منصور. «طيب يا عاصي منيحة طلعت». يجيب عاصي: «لاء فيروز عظيمة وفيروز بطّلِع بعد أحسن من هيك».
«المعلّم» الكريم الذي علّم نفسه بنفسه والذي لم يكن يترك في جيبه شيئاً مثل والده، هو الذي كان مندوراً للعطاء، أعطانا كلَّ زوّادته من أيّام وأحلام وأخبار، كمش لنا كلَّ نغمة ناضجة، وحرّر كلَّ كلمة مختبئة وقطف كلّ لمعة صوت خائفة لنستلذّ ونزيد من رحمٍ وُلِد من ذاته وأولد من ذاته ووزّع متعة النسب.
في 21 حزيران 1986، قال منصور الرحباني: «اليوم تدفنون عاصي وتدفنون معه نصفَ منصور». ومن حينها توقّف نسجُ خيوط «الكذبة»… وما زلنا نُصدّق قصة «ضيعة مش موجودة». زرع عاصي فينا ما لا يموت. الحُلم لا يموت. و«الحقيقة مع الوقت».