Site icon IMLebanon

نقص عنايات الأطفال: المواليد يُوزّعون كـ”البونبون”!

كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:

مؤخراً، أثارت ولادة أم لستة أطفالٍ دفعة واحدة إرباكاً داخل أحد المستشفيات. مصدر الإرباك صعوبة الإجابة عن سؤال: أين نضع كل هؤلاء؟

وهو السؤال الآتي في سياق سنواتٍ طويلة من التخبّط. فكلما حدثت ولادة جماعية، يحلّ الإرباك أولاً، مع استعادة لـ«النغمة» ذاتها: النقص الفادح في أعداد أسرّة العنايات الفائقة الخاصة بحديثي الولادة. بحسب آخر الإحصاءات، يبلغ عدد تلك الأسرّة، حكومية وخاصة، 596 سريراً. فيما تُسجّل في لبنان 8 آلاف ولادة مبكرة، منها 1200 قبل الشهر السابع من الحمل.

وَلَدَت «مريم» ليلاً، فأبقت وزارة الصحة ساهرة حتى الفجر. في تلك الليلة، أعطت الحياة لثلاثة أطفال، قبل ثلاثة أشهرٍ من موعد ولادتها الطبيعي، لكنها أربكت المستشفى، ما استدعى «تدخّل» وزير الصحة، يومذاك، محمد جواد خليفة، للعمل على «توزيع» المواليد على المستشفيات التي تملك عنايات فائقة خاصة بالأطفال الخدّج (المولودون قبل أوانهم). استمرت الإتصالات حتى الثالثة فجراً، قبل أن ترتّب «إقامة» المواليد الثلاثة: واحد في بيروت، والثاني في المستشفى الحكومي في النبطية، والثالث في مستشفى دلاعة في صيدا!

هذه ليست طرفة. هي حكاية واقعية لولادة «جماعية» عرّت النظام الصحي. في بلد عادي جداً، يسير فيه «السيستم» الصحي وفق الأصول، لا تُحدث ولادة كهذه ارباكاً، بل حالة من الفرح. أما في لبنان، حيث «السيستم» العاطل، فسيستدعي ذلك تدخّلات «على أرفع المستويات» لتأمين سرير للمواليد الجدد، في ظل نقصٍ فادح في العنايات الخاصة بالأطفال، في شقيها: الحديثي الولادة والأطفال دون 13 عاماً.

في الشق الأوّل، تظهر الإحصاءات الأخيرة لنقابة أصحاب المستشفيات أنّ هناك «596 سريراً للعنايات المركّزة الخاصة بحديثي الولادة في المستشفيات الخاصة والحكومية في لبنان»، العدد الأكبر منها في جبل لبنان (138 سريراً)، يليها البقاع (129)، فالجنوب (128) والشمال (127)، وأخيراً بيروت بـ74 سريراً. والى الفارق الشاسع في توزّع هذه الأسرّة بين 510 في المستشفيات الخاصة و86 في الحكومية، فإن المفارقة البشعة، الأخرى، هي استحواذ محافظة جبل لبنان على العدد الأكبر من الأسرة في المستشفيات الخاصة، مقابل صفر في المستشفيات الحكومية.

تحاول رئيسة دائرة الرقابة على المستشفيات الحكومية الدكتورة لودي رزق تلطيف هذا الواقع قدر الإمكان، فـ«الأمر ليس سيئاً إلى هذه الدرجة، والنقص ليس كبيراً إلى هذا الحد، إذ أنه من أصل 35 مستشفى حكومياً، هناك 6 فقط لا توجد فيها عنايات فائقة خاصة». والعنايات الخاصة بالأطفال؟ لا أرقام لدى رزق عن تلك «الأماكن»، ولكنها تقول انه «في المستشفيات التي توجد فيها عنايات فائقة، بيقدروا يضلوا يمشّوا الأطفال».

وتضيف أن وزارة الصحة العامة «أصدرت قراراً منعت بموجبه إجراء أية عمليات جراحية أو ولادة في المستشفيات التي لا توجد فيها عنايات فائقة». هذا أقصى ما يمكن فعله في الوقت الراهن. لا خيار سوى الإكتفاء بالموجود، في انتظار تمويل كافٍ لسدّ النقص في هذا «القطاع». ما عدا ذلك، فالخاص موجود. ولكن، حتى هذا الأخير يعاني نقصاً. وعلى قاعدة أن «أهل مكّة أدرى بشعابها»، يفنّد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون هذا الواقع، متحدّثاً عن نقص وإرباك تتسبب به «نسبة الولادات المرتفعة، وتحديداً تلك التي تأتي قبل أوانها». هذا السبب يضاعف الأزمة من عامٍ إلى آخر. ولئن كان هارون يتحسّس النقص في هذا المجال، إلا أنه ليس من «مشجّعي» فتح العنايات بشكلٍ عشوائي. يفضّل أن تكون هناك معايير، كأن تتخطى الولادات في المستشفى مثلاً الـ600، سنوياً. يتحدّث هارون عن قوانين فرنسية تعمل على إقفال العنايات الخاصة بحديثي الولادة، إذا ما كانت الولادات أقل من 300 في السنة.

هذا في فرنسا. أما في لبنان، فثمة معادلة واضحة: نقص في العنايات المركزة لحديثي الولادة وفائض سنوي في أعداد المواليد. هذه المعادلة تستوجب أحد حلين: إما تعزيز وجود العنايات المركزة أو تنظيم… النسل. لكن، بما أن لا سياسات صحية واضحة وفي ظل نظام صحي عاطل، يبقى أن الإرباك حاصل في كل آن. هذا الأمر يدفع الى توزيع المواليد «متل البونبون على الأماكن الشاغرة»، يقول خليفة.

لم يأت هذا النقص من العبث. ثمة أسباب له، منها ما يتعلّق بزيادة الولادات ومنها ما يتعلق بتكاليف العنايات المركّزة، الخاصة بحديثي الولادة تحديداً. في الشق الأول، تتحدّث الإحصاءات عن 90 ألف ولادة سنوياً، منها 9,6% ولادات مبكرة، وما يقرب من 8 آلاف طفل يولدون قبل أوانهم. «avant terme»، بالمصطلح الطبي. هؤلاء يولدون بنسبة «1 أو 2 من 100 قبل انقضاء فترة الأشهر التسعة من الحمل»، يقول خليفة. أكثر من ذلك، هناك أيضاً 15 طفلاً من أصل كل 1000 ولادة في لبنان يولدون قبل الشهر السابع. بحسابٍ بسيط، هناك ما يقارب 1200 طفل سنوياً يولدون قبل انقضاء الشهر السابع. وهذا يتطلب توفير عناية خاصة لهم في قسم العناية الفائقة.

1200 طفل يحتاجون للعناية، فيما عدد الأسرّة يستقر عند عتبة الـ600. أي أن نصف الأطفال بلا رعاية. هذه أزمة، معطوف عليها ــــ بحسب خليفة ــــ ما «أسهم فيه التطور السريع في تقنيات الحمل». فهذه التقنية من «تحبيل المرأة صناعياً» تؤدي إلى ولادة طفلين وثلاثة وأربعة وحتى خمسة أطفال دفعة واحدة، وإلى إرباك في المستشفى.

ثمة شقّ آخر يؤسس لهذا النقص وهو الكلفة المرتفعة لعنايات الخدّج. فهذا القطاع «غير مربح بالنسبة للمستشفيات، ومكلف جداً»، يقول خليفة. تجارياً، العنايات الخاصة بالأطفال «bad investment». فهي مكلفة لأنها تحتاج لمعدات وتجهيزات خاصة، وأطباء متخصصين بالعنايات الفائقة بالخدج «وهو أمر نادر وغير موجود في غالبية المستشفيات، حيث يجري الإستعانة بطبيب أطفال حديثي الولادة وهذا منطق خاطئ»، يقول أحد الأطباء. إلى ذلك، تضاف التغطية «النظرية» للجهات الضامنة، إن كان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو تعاونية موظفي الدولة وغيرهما، لليلة الواحدة في المستشفى، والتي تختلف هي الأخرى من مكانٍ إلى آخر. فحتى في التسعيرة، المستشفيات «طبقات». ففيما يقول هارون إن بدل إقامة الـ24 ساعة للخدّج، مع إجراء فحوصات عادية «لا يقل عن 300 دولار»، ثمة أمكنة تصل فيها الليلة الواحدة إلى حدود «1500 دولار، وهذه طبعاً تعود لكل مستشفى والمعدات التي يستخدمها»، يقول خليفة. وقد تصل إلى «2500 دولار في اليوم إن كانت الحالات تستدعي إجراء تدخلات جراحية أو أدوية باهظة الثمن». وهنا، يتحدث خليفة مثلاً عن أمٍ دخلت لتلد طفليها وخرجت بعد شهرين بـ«550 ألف دولار»!

لكل شيء سعره: التنفس الإصطناعي. الأدوية. الحفاضات. كلها تزاد على الفاتورة التي تختلف من مستشفى إلى آخر «بحسب المعدات التي استخدمت»، على حد قول أحد الأطباء. أي أن «الـ275 ألف دولار بدل شهرين في الجامعة الأميركية في بيروت أو كليمنصو هي 8 أشهرٍ في مستشفى الزهراء مثلاً»، يتابع. بعبارة أوضح، «العنايات متل السيارات: واحدة موديل 2009 وأخرى موديل 2018، وما بين تلك الأعوام تختلف الـoptions».

أما العامل الآخر، فيتعلق بغياب الفصل العلمي بين عنايات الخدّج والأطفال… وقد تصل إلى الكبار. وبحسب أحد الأطباء، الحدود ليست واضحة هنا «لذلك نجد أن مستشفيات قليلة جداً تفصل الأطفال بحسب أوزانهم وأعمارهم، فيما توجد في المقابل مستشفيات تضع الأطفال مع الكبار».

ثمة عامل ثالث يتعلّق بغياب نظام للإحالة. ففي غالب الأحوال، يجري تبليغ المرضى شفهياً بعدم وجود سرير فارغ في العناية، كما حال الأقسام الأخرى. ما يستدعي، بحسب خليفة أن يكون هناك «خط سريع في النظام الصحي، إن كان بالنسبة للدفع أو الدخول أو أي مكان آخر».

المطلوب إعادة ترتيب النظام الصحي، وإلا تشغيل «المستويات العليا»… كلما حدثت ولادة جماعية.