كتب فراس الشوفي في صحيفة “الأخبار”:
قبل أقلّ من عام، سلّطت «الأخبار» الضوء على قضيّة خطيرة تمسّ الحريات العامة والخاصة في العاصمة بيروت، هي كاميرات البلديّة التي تراقب وتسجّل أدقّ التفاصيل في زواريب المدينة وشوارعها، مع غياب القوانين التي تضمن حريّات الأفراد الشخصيّة والسياسية. اليوم، يعود ملفّ الكاميرات إلى الواجهة، من بوابّة «تنازع السلطات» بين بلديّة بيروت وقوى الأمن الداخلي، ممثّلة بفرع المعلومات، الذي «وضع يده» أول من أمس على المبنى الثاني من غرفة التحكّم بالكاميرات في منطقة الكرنتينا، تنفيذاً لقرار من وزير الداخليّة والبلديات نهاد المشنوق صادر في عام 2016.
ليل أوّل من أمس، توجّهت مجموعة من فرع المعلومات (الفرع الفنّي) إلى مبنى غرفة التحكّم بالكاميرات في مدينة بيروت الواقع في منطقة الكرنتينا (غرفة التحكم الأولى تقع في ثكنة الحلو)، ووضعت عناصر حراسة تابعين للفرع بدل العناصر التابعين لشرطة بلدية بيروت. وبحسب أحد الموظفّين في البلدية، فإن محافظ بيروت زياد شبيب الوصي على البلدية، أرسل صباح أمس مجموعة من عناصر شرطة البلدية لاستعادة السيطرة على المبنى، إلّا أن عناصر الفرع طردوا المجموعة. وفيما غاب شبيب عن السمع طوال يوم أمس بعد أن رفض الإجابة عن أسئلة «الأخبار»، قالت مصادر أمنية معنيّة لـ«الأخبار» إن «أربعة عناصر فقط من الفرع الفني هم الذين يتولّون الإشراف على المركز، بسبب وجود معدّات حساسة لا يجب تركها من دون حراسة حتى موعد البدء بالعمل بالمركز»، مؤكّدة أن «فرع المعلومات لم يطرد أحداً من شرطة البلدية».
في الأصل، مركز التحكّم في الكرنتينا هو نسخة طبق الأصل عن مركز التحكم الأول في ثكنة الحلو، الذي بدأ العمل به منذ ما يزيد على ثمانية أشهر بإشراف شرطة بيروت في قوى الأمن الداخلي… أما مركز الكرنتينا، فالشركة المصممة انتهت من العمل فيه في كانون الأول الماضي، وأنجزت عملية «التسليم الأولي» للبلدية، على أن تقوم بالتسليم النهائي في كانون الأول المقبل. أمّا لماذا بدأ العمل بالمركز الأول فيما تأجل العمل بالثاني، فتقول مصادر متابعة للملفّ، إن المركز الأول أُسرِع بالعمل به بسبب وجوده في ثكنة الحلو وفي عهدة قوى الأمن الداخلي، بينما تأخر العمل بالثاني لحين تسليمه لقوى الأمن، مع أن الجهة المسؤولة عنه في القانون هي بلدية بيروت حصراً. غير أن وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، أصدر قراراً في عام 2016 بوضع مراكز التحكم في عهدة قوى الأمن الداخلي. علماً بأن قرار إنشاء بلدية بيروت شبكة من الكاميرات المعقّدة مخالف للقانون أساساً، ويحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء، وسبق لتيار المستقبل أن عرضه على مجلس الوزراء خلال حكومتي الرئيس فؤاد السنيورة الأولى والثانية وحكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، فوُوجِهَ برفض من الوزراء، إلّا أنه بدئ العمل بالمشروع خلافاً للقانون في عام 2013.
يدافع وزير الداخلية عمّا حصل أمس بالقول أوّلاً إنه الوزير صاحب الوصاية على بلدية بيروت وعلى المحافظة، وله الحقّ في منح قوى الأمن الإشراف على مركز التحكّم، وثانياً، بالنسبة إلى المشنوق، مؤسسة قوى الأمن «أثبتت جدارتها، وفرضت الأمن في مدينة بيروت وأخلاق المؤسسة هي الضامن لمنع استخدام المعلومات التي تجمعها الكاميرات عن المواطنين وغيرهم لأغراض شخصيّة، وتحصر العمل بالشق الأمني». ويقول المشنوق عن التضارب في الصلاحيات، إن «المسألة تقنية فحسب، المركز يجب أن يكون بعهدة قوى الأمن، ومحافظ بيروت فوجئ بالقرار، وجرى التوضيح لاحقاً والمسألة انتهت».
في المقابل، تقول مصادر أخرى، إن السبب في اندلاع الخلاف هو عقد المحافظ زياد شبيب اجتماعاً الأسبوع الماضي مخصصاً لمناقشة مشكلة السير في بيروت، للجنة المعنية بالسير في بيروت، في مقرّ الكرنتينا بدل مقرّ المحافظة، بحضور ممثلين عن شرطة بيروت ومجلس الإنماء والإعمار وهيئة إدارة السير وضباط من مركز التحكم في ثكنة الحلو، وجرت مراقبة حركة السير في المدينة على الشاشات في الكرنتينا، ما دفع المعلومات إلى التحرك وتسلُّم المركز، بدل أن تبقى إدارة المركز في يد البلدية. وتضيف المصادر أن ما حصل هو جزء من تجاذب بين المشنوق وشبيب بدأ منذ فترة. إلّا أن وزير الداخلية ينفي ذلك، مصراً على أن ما حصل هو «سوء تفاهم».
كل هذا لا يلغي أن وضع الكاميرات في مدينة بيروت لا يزال غير قانوني، والمشروع الآن موجود بقوّة الأمر الواقع، من دون غطاء من مجلس الوزراء، وفي عهدة جهة أمنية واحدة، في بلد تتداخل فيه التجاذبات السياسية بالأمن إلى أقصى الحدود. وليس خافياً، أن أكثر من جهاز أمني يطالب بالحصول على حقّ الوصول إلى المعلومات التي تحفظها الكاميرات في بيروت، وبالمشاركة في غرف التحكّم إلى جانب قوى الأمن الداخلي. ولا يقف الأمر عند حدود مدينة بيروت، إذ بدأ العمل في مدينتي صيدا وطرابلس على آلية مشابهة، تقول عنها مصادر نيابية بارزة في قوى 8 آذار، إن «تيار المستقبل يقف خلف الأمر، ويضع البلديات في الواجهة». وتطالب المصادر النيابية «بوضع الكاميرات بتصرّف مجلس الوزراء، وطرح الأمر على الحكومة المقبلة، التي عليها أن تبتّ بهذا الملفّ، لكونه ملفاً وطنياً يدخل في استراتيجية الدولة الوطنية».
ولعلّ أسوأ ما في الأمر، في ظلّ وجود كاميرات مراقبة في المدينة بإمكانها رصد تحركات المواطنين والتجّار والسياسيين وحتى العلاقات الشخصية، غياب «الهيئة الوطنية لضمانة وسلامة الحرية الشخصية» التي ترد في الفصل الرابع من مشروع «قانون المعاملات الإلكترونية»، والتي لم يقرّها مجلس النواب اللبناني حتى اللحظة، والاكتفاء كما يقول المشنوق بـ«أخلاق قوى الأمن الداخلي»، أي رهن المعلومات الشخصية للأفراد بأخلاق أشخاص آخرين بدل الاستناد إلى قانون، مثل أي دولة «طبيعية» في العالم.