كتبت آمال خليل في صحيفة “الأخبار”:
خمس سنوات مرّت على معركة عبرا الشهيرة بين الجيش اللبناني ومجموعات مسلحة تابعة لإمام مسجد بلال بن رباح، الشيخ أحمد الأسير في عبرا. كانت الحصيلة استشهاد 23 ضابطاً وعسكرياً للجيش اللبناني وسقوط عشرات القتلى والجرحى من المسلحين وإلقاء القبض على العشرات منهم، فضلاً عن سقوط عدد من الأبرياء. بعد سنة ونيف ألقي القبض على الأسير، ثم كرت سبحة توقيف بعض الخلايا الأسيرية النائمة.
تبحث عن الحالة الأسيرية في مقرّ إمارتها، فلا تجد عناصر مادية حقيقية، لكن ثمة قناعة لدى الأجهزة العسكرية والأمنية بأن هذه الحالة تمددت في مدينة صيدا وتتعمد التخفي لدواعٍ أمنية وسياسية. وإذا كانت هيبة الدولة هي المنتصر الأول في هذه المعركة، فإن جيران المربع الأمني الذي أزيل واستعاد القاطنون فيه حياتهم الطبيعية هم الرابحون أيضاً. يقول أحد هؤلاء: لقد تحررنا باكراً من داعش، ولكن ثمة خشية من أن يولد مربع آخر في صيدا أو خارجها، إذا تراخت القبضة الأمنية في التعامل مع هذه الظاهرة.
«كسرنا مليون جرة خلفه». عبارة ترددها السيدة السافرة التي «تتشمس» على شرفة منزلها قبالة مسجد بلال بن رباح في عبرا. ترفض السؤال من أصله عن «جارها». «أحمد الأسير ليس جارنا. هو ليس جار الرضى، بل جار النحس. النبي أوصى بسابع جار، إنما هو عيّشنا في الجحيم وخرب بيوتنا من عبرا إلى صيدا والجنوب وجزين». لم تبرد حرقتها ولا حدّة كلماتها رغم مرور خمس سنوات على معركة عبرا وإزالة المربع الأمني الذي استحدثه الأسير في محيط مسجد بلال بن رباح. تقول: «دفعنا ثمناً غالياً جداً قبل أن ينتصر الجيش ولا يُبقي له أثراً بيننا».
«بناية فضل شاكر»
في الشكل، لم يعد للمعركة أي أثر. المباني التي تعرضت للحريق ولأضرار، بسبب الرصاص والقذائف الصاروخية، أعادت ترميمها وطلاءها جمعية فرح العطاء والهيئة العليا للإغاثة التي صرفت تعويضات للمتضررين. المحالّ التجارية في أسفل المباني عادت لأصحابها وعاد إليها زبوناتها مجدداً. تزهو الألوان على جدران المبنى المقابل للمسجد الذي تعرض لحريق كامل. كان يعرف ذلك المبنى المجاور للمسجد باسم «بناية فضل شاكر»، نسبة إلى سكن الأخير لأشهر في شقة مستأجرة فيه واستئجاره محلين أيضاً، أحدهما، شُغِّل كمقهى كان شاكر والأسير ومرافقوهما يمضون فيه معظم أوقات الفراغ.
اليوم، بات المقهى كما الشقة بعهدة مستأجرين جدد. كذلك المحال التجارية، وبينها صالون تزيين نسائي. مهنة «الكوافير» لم تكن تنسجم مع «المربع» وما فرضه الأسير من شروط وأحكام للعيش والتنقل والمهن التي صارت مع الوقت تشبه الأسير، لا بل تنظيم «داعش». فقد كانت نساء الأسير في «المربع» يرتدين النقاب وكانت «الزينة» بأنواعها «بدعة»، حتى إن الشيخ الذي عمل عازفاً ومطرباً في مطلع شبابه، حاول فرض الحجاب على جاراته، برغم معرفته بأنهن ينتمين إلى طوائف وثقافات متنوعة، ولكنه لم ينجح في تعميم ثقافة النقاب.
اليوم، عادت مظاهر الزينة ورياضة النساء والسهر في المقاهي والمطاعم الذي زاد عددها وعادت «الصبحيات» على شرفات المنازل. في زمن «المربع»، أُجبر الناس على العودة إلى منازلهم عند العاشرة ليلاً قبل إقفال العوائق الحديدية عند مداخل الشوارع المؤدية إلى البقعة التي صارت مع الوقت أمنية بامتياز. هؤلاء الناس كان لزاماً عليهم أن يحصلوا على بطاقة من جماعة الأسير تثبت أنهم يملكون أو يستأجرون شققاً في «المربع»، حتى يتمكنوا من الدخول إليه أو الخروج منه.
لم يعد… «يمكن ما خلصت»
إلى المبنى المجاور لمسجد بلال بن رباح، عاد سكانه كلهم، بعد أن كان قد غادره بعضهم إثر استحداث «المربع» وتزايد وتيرة الإشكالات الأمنية، باستثناء الطبقة الأولى. في هذه الطبقة، شقتان مملوكتان للشيخ الموقوف. إحداهما كانت مخصصة لسكن إحدى زوجتيه، وثانيتهما تستخدم مكتبة ومكتباً. دار الفتوى وضعت يدها على الشقتين اللتين لا تزالان مقفلتين منذ المعركة حتى الآن. أما المبنى حيث يقع المسجد، فلا تزال شقة الطبقة الأولى التي يملكها الأسير شاغرة. استعاد الجيران حياتهم الطبيعية، باستثناء واحد منهم، يرفض العودة حتى الآن. هو أستاذ جنوبي تعرض لمضايقات أسيرية أكثر من باقي السكان، لدفعه إلى المغادرة. لا يستطيع ذلك الجنوبي تكذيب حدسه العفوي الذي يُنبئه بأن القصة «يمكن ما خلصت». لكن كيف بدأت، حتى لا تنتهي؟
عام 1997، انتقل أحمد الأسير الذي كان حينها من جماعة أهل الدعوة، من مسجد حمزة عند مدخل عبرا إلى حي سكني متفرع في عبرا الجديدة، إلى الشرق من مدينة صيدا. هناك، بمساعدة عدد من المتمولين، حوّل المحال التجارية في الطبقة السفلى من مبنى سكني إلى مصلى. في وقت لاحق، اشترى أحد الأشخاص الشقة الواقعة في الطبقة الأولى وسجل ملكيتها باسم الأسير. بالتزامن، أطلق عدد من المصلين حملة للتبرع بالأثاث والحاجيات لتجهيز المصلى، ومعظمهم من سكان الشقق المجاورة، ممن تعاملوا مع الأمر من موقع «المؤمن الطبيعي».
هكذا بدأت سيرة الأسير
«شو بدي بالسياسة». هكذا كان يجيب الأسير من كان يسأله من رواد المصلى عن سبب غياب المواقف السياسية عن خطبه طوال سنوات، لتقتصر على الوعظ والدروس الدينية. هدوء خطابه الديني و«كاريزما» شخصيته الشعبية التي اكتسبها من خلال المهن المختلفة التي أتقنها (موزع قوارير غاز، بائع خضار وفواكه، عازف موسيقي إلخ…)، جعلاه قادراً على استقطاب جيل الشباب من سكان المنطقة.
بعد أن صار يمتلك رصيداً من المريدين الذين يتحلقون من حوله في دروس الوعظ وصلاة الجمعة، بدأ على مدى عقد من الزمن يشق طريقه تدريجاً نحو السياسة، لكن بانحيازات فاضحة. تجلى الانحياز الأبرز في أحداث أيار 2008 في صيدا، قبل أن تنفجر «قريحته» عقب اندلاع الأزمة السورية في عام 2011. في تلك السنة، بدأ الانتقال من الانحياز السياسي إلى سلوك درب التشكيلات العسكرية.
احتاج سكان الحي إلى وقت طويل لهضم الحركة العسكرية التي كان يشهدها مستودع المصلى وتتزايد وتيرتها مع الوقت. في الليل، كانت تتولى شاحنات إفراغ حمولتها من الأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة. منها ما يخزن، ومنها ما يستخدم لتدريب عناصر مجموعته الأولى (النواة)، وبينها عشرات السوريين والفلسطينيين واللبنانيين. مسار بلغ ذروته مع إقفال الأوتوستراد الشرقي (آب 2012) والتلويح بإقفال الطريق البحري، قبل أن تنفجر معركة عبرا في الثالث والعشرين من أيار 2013.
هل يعود «الأسيريون»؟
وفق شهود عيان، سجلت في الأشهر الأخيرة حركة لافتة للانتباه في مسجد بلال بن رباح. ازداد عدد المصلين بعد سنوات من الانكفاء عنه كان يتحاشى كثيرون خلالها ارتياده بسبب العيون الأمنية التي كانت ترصده على مدار الساعة، فضلاً عن استمرار توقيف أشخاص على صلة بالحركة الأسيرية، وآخرهم قبل أشهر قليلة، استناداً إلى اعترافات مطلوبين سلموا أنفسهم أو أوقفوا في صيدا وجوارها. من بين الوجوه العائدة إلى المسجد، ما هو معروف، ومنها ما هو جديد. يؤكد السكان أن ليس كل رواد المسجد يؤيدون أفكار الأسير بالضرورة. هناك من يقصدون المصلى لقربه من منازلهم «لا أكثر ولا أقل» على حدّ تعبير أحدهم. لكن المؤيدين للحالة الأسيرية ليسوا أقلية. الدليل، أنه بعد صلاة عيد الفطر الأخير، نظم أسيريون ينضوون في ما تعرف «لجنة مسجد بلال» «كرمس» ترفيهياً للأطفال في باحة المسجد، من دون أن يقطعوا الطريق على حركة السيارات. فيما نفذ أهالي موقوفي عبرا اعتصامات عدة أمام المسجد، وذلك بالتزامن مع وقفات احتجاجية للمطالبة بالعفو عن الأسير و«الأسيريين»، نفذوها أمام عدد من مساجد صيدا. بالنسبة إلى مسجد بلال، لا يزال منذ المعركة بإشراف مباشر من دار إفتاء صيدا التي كلفت شيخاً لإمامة الصلاة وتلاوة خطب الجمعة والأعياد.
الجيش يُحصي أنفاس الأسيريين
لا يحصر المناصرون للأسير وجودهم في مسجد بلال، بل يلاحظ توزعهم على مجموعات ترتاد كل واحدة منها مسجداً (مساجد عائشة وميسر والروضة وغيرها). ووفق المعلومات الأمنية، يتعمد هؤلاء عدم التجمع في مكان واحد لكي لا يثيروا الشبهات الأمنية، ولا سيما أنهم قيد الرصد من مخابرات الجيش ومن باقي الأجهزة الأمنية في المدينة. مع ذلك، تشير المعلومات إلى استعادة «الأسيريين» حلقات تواصل لا تثير انتباه الأجهزة. بالتزامن، ضبطت القوى الأمنية في الأشهر السابقة مستودعات ذخيرة، تبين أنها تعود لـ«الحركة الأسيرية».
ثمة قناعة أمنية بعدم قدرة الأسيريين على النهوض مجدداً، ولا سيما في ضوء ضربة معركة عبرا ثم التوقيفات المتكررة للخلايا النائمة وتفكيكها وعدم إعطاء هذه الحالة أية فرصة لتعيد حضورها الأمني، فضلاً عن غياب الراعي السياسي المحلي والإقليمي لظواهر كهذه، وخصوصاً في ظل تطورات الأزمة السورية لمصلحة النظام السوري وحلفائه. زد على ذلك تبرؤ تيار المستقبل والقوات اللبنانية وقوى 14 آذار من أحمد الأسير بعد معركة عبرا التي أدت إلى استشهاد 23 ضابطاً وجندياً من الجيش، وصولاً إلى إعادة تثبيت المناخ الوطني والقومي حضوره في عاصمة الجنوب، كما بيّنت ذلك الانتخابات النيابية الأخيرة، وما حملته من فوز لرئيس التنظيم الشعبي الناصري أسامة سعد عن أحد المقعدين النيابيين في صيدا.
تفرق المتمولين إلى «المربع الأول»
ويمكن القول إن واقع التأزم والتشظي في الحالة الأسيرية ما زال مستمراً، ويزيد من تأزمه عدم إقرار قانون العفو الذي لطالما راهن عليه معظم الإسلاميين، ومنهم أحمد الأسير، علماً أن بعض الأوساط السياسية تجزم بأن العفو إذا حصل لن يشمل حتماً المتورطين بجرائم كما هي حالة الأسير ومجموعاته التي تورطت في قتل الضباط والعسكريين اللبنانيين.
صيداوياً، لوحظ تفرق المتمولين الذين كانوا يدعمون الأسير بالمال والإمكانات، مثل (م. ن.) و(ن. ع.) وغيرهما ممن قرر التموضع في خانة الحالة الحريرية، وتحديداً حول النائبة بهية الحريري، أو قرر العودة إلى «مربعه الأول» نحو الجماعة الإسلامية.
أما العامل الأهم، فهو اضمحلال دور الجماعات الإسلامية المتشددة في عين الحلوة التي آزرت الحالة الأسيرية وشكلت سنداً عسكرياً وعقائدياً وتنظيمياً لها. بعد سنوات على إزالة مربع عبرا، أزالت حركة فتح مربع بلال بدر في حيّ الطيرة في عين الحلوة، الذي كان يستقطب أنصار الأسير المتوارين في المخيم. الضربات التي تلقاها الإسلاميون على صعيد المخيم، انعكست على تشتّت الأسيريين الذين يتوزعون حالياً بين أحياء الطوارئ وحطين والمنشية (نموذج الفنان التائب فضل شاكر يوجد في المنشية) وينتظرون تسوية تمكنهم من تسليم أنفسهم أو الهرب بطرق غير شرعية إلى خارج لبنان.
أبرز المتوارين
حالياً، يشكل مساعد الأسير ومدير مكتبه الشيخ أحمد الحريري ومحمد العوجي أبرز الأسيريين المتوارين في عين الحلوة. في وقت سابق، تمكن شقيق الأسير أمجد، وأولاده الثلاثة من الخروج إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. بعد مغادرة شادي المولوي الذي أدى دور المرشد الروحي والعسكري لأيتام الأسير، بقي الرأس المدبر للخلايا الأسيرية النائمة شاهين السليمان (أبرزها خلية باب السراي التي ضبطت عام 2015، وأدت إلى توقيف الأسير) متوارياً في عين الحلوة. تشير المعطيات الأمنية إلى أن المولوي المتواري والسليمان الذي يتنقل بين عين الحلوة وخارجه يشكلان إطاراً تنظيمياً وعسكرياً لإعادة استقطاب مناصري الأسير وجذب مؤيدين جدد. بالتزامن، كان لافتاً عودة بعض الأسيريين لارتداء الجلباب وإرخاء ذقونهم، فيما عادت زوجاتهم إلى ارتداء النقاب.