تستعد الولايات المتحدة لتلقي ضربة انتقامية من قبل حلفاء وخصوم قررت فرض تعريفات جمركية على بضائعهم، ضمن سياسة الرئيس دونالد ترامب، التي توشك على إشعال حرب عالمية ثالثة، أدواتها البضائع والخدمات والمنتجات، بدلا من الطائرات والمدافع والصواريخ والأسلحة النووية.
هذه الحرب تختلف عن الحربين العالميتين السابقتين، عندما كان المعسكران واضحين ومنقسمين، وكانت دول المعسكر الغربي المدافع عن قيم الديمقراطية تحظى بدعم الولايات المتحدة دون شروط.
يوحي ذلك بتشكل ديناميكية جديدة لإدارة منظومة القيم الغربية التي باتت تقف على شفا الانهيار. كما يعكس مضي الولايات المتحدة في طريقها بعيدا عن قيادة “العالم الحر” أو الدفاع عن مصالحه، طالما قد يؤثر ذلك على رؤية “أميركا أولا” التي بنى ترامب عليها كل رهانات مستقبله السياسي.
لكن يبدو اليوم أن الولايات المتحدة تقف وحدها في مواجهة الجميع. وأول هؤلاء هم أقرب حلفائها في أوروبا وكندا والمكسيك، الذين فرضت على وارداتهم من الصلب تعريفات جمركية بقيمة 25 بالمئة، والألمنيوم بقيمة 10 بالمئة، دخلت حيز التنفيذ مطلع الشهر الجاري.
وسيكون على ترامب مواجهة الخطر الأكبر من الرسوم الأوروبية، إذ تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وعلى الفور، أعلن الاتحاد الأوروبي فرض رسوم جمركية “انتقامية” ردا على الرسوم الأميركية. وأعلنت المفوضية الأوروبية الأربعاء فرض رسوم على واردات سلع أميركية بقيمة 3.3 مليار دولار، بدأ تنفيذها الجمعة.
وتشمل قائمة الواردات من الولايات المتحدة منتجات الصلب والألمنيوم والسلع الزراعية، ومزيجا من مختلف المنتجات الأخرى. وعلقت مفوضة التجارة الأوروبية سيسيليا مالمستروم على قرار الاتحاد قائلة “لم نكن نريد أن نكون في هذا الموقف”.
سلاح ذو حدين
قاد ترامب حملته الانتخابية عندما كان مرشحا على قاعدة “إنهاء سبعة عقود من السياسة الأميركية” التي رسخت أعلى مستويات التجارة الحرة بين بلدان العالم في التاريخ.
وتتمحور هواجس ترامب حول اتفاقين يراهما غير عادلين بالنسبة للولايات المتحدة؛ أولهما اتفاق التجارة الحرة في أميركا الشمالية (نافتا)، واتفاق آخر سمح بانضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية. ويعتقد ترامب أن هذين الاتفاقين، إلى جانب اتفاقات تجارة أخرى، قلّصت الكثير من مكاسب الصانعين الأميركيين، ودمّرت الملايين من الوظائف في المصانع الأميركية.
ويبرر ترامب فرض التعريفات الجديدة على أوروبا والمكسيك وكندا، بالتأكيد على أن ممارسات حلفاء واشنطن باتت تشكّل “تهديدا للأمن القومي الاميركي”، وهو ما يقول خبراء أميركيون إنه مبرر لا أساس له على أرض الواقع.
ويهدد ترامب بفرض المزيد من التعريفات الجمركية على واردات السيارات والشاحنات وقطع الغيار المستخدمة في تصنيعها.
وتقدر المفوضية الأوروبية قيمة صادرات الفولاذ والألمنيوم التي وضعت عليها الولايات المتحدة رسوما بنحو 7.616 مليار دولار. ويعني هذا أن قيمة الرسوم التي فرضتها أوروبا على الصادرات الأميركية أقل من قيمة الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة على صادرات أوروبا. ويتطلب ذلك إجراءات إضافية من قبل الاتحاد الأوروبي لكي يتساوى الطرفان، فيما يعرف بين خبراء التجارة بـ”إجراءات إعادة التوازن”.
وبالفعل قالت المفوضية “لإعادة التوازن في التجارة مع الولايات المتحدة، فإننا سنفرض لاحقا رسوما وجمارك أخرى بقيمة 4.28 مليار دولار على واردات من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الرسوم بقيمة 3.3 مليار دولار التي بدأ تطبيقها الجمعة”.
وتستهدف الرسوم الأوروبية بعض السلع الاستراتيجية الأميركية، مثل صادرات الدراجات النارية من طراز هارلي ديفيدسون الشهيرة، ومشروبات كحولية أميركية تحقق أرباحا كبيرة، بهدف “إحداث ضجة” ووضع ضغط كبير على إدارة ترامب.
ويقدر جون ميرفي، نائب رئيس غرفة التجارة الأميركية، أن سلعا أميركية تصل قيمتها إلى 75 مليار دولار سيتم فرض رسوم عليها من قبل دول عدة بنهاية الأسبوع الأول من شهر تموز المقبل.
وتقول ماري لوفلي الباحثة في شؤون التجارة الدولية في جامعة سيراكوس، “لم نر شيئا كهذا من قبل، على الأقل منذ أن حاولت الدول تحصين تجارتها ضد المنافسة الدولية إبان الأزمة الاقتصادية الكبرى”، التي ضربت أسواق العالم في أواخر العقد الماضي.
ويخشى التجار والموزعون والمنتجون، الذين يقفون على الخطوط الأمامية ومن المحتمل أن يتأثروا بشكل سريع ومباشر بهذه الحرب التجارية، من تبعاتها بشكل كبير.
ويقول مدير مطعم وحانة سولت ويسكي الواقع في وسط لندن، ناغيش بالوسو، “الوضع سيكون كارثيا”.
ويتوقع بالوسو أن تتسبب الرسوم الأوروبية على الصادرات الأميركية من المشروبات الكحولية في إضافة 7 جنيهات إسترلينية إلى سعر زجاجة ويسكي جاك دانيالز، التي يشتريها المستوردون البريطانيون من ولاية تينيسي الأميركية.
ويقول بالوسو “هذه الإجراءات من المؤكد أنها ستؤثر بشكل مباشر على الزبائن، لكن السؤال هو: كيف سيستقبلون هذه الأسعار الجديدة؟ سيكون علينا الانتظار لنعرف ذلك”.
وحاولت الدول الأوروبية إجراء محادثات صعبة ومباشرة مع ترامب خلال قمة مجموعة السبع التي عقدت في كندا في 8 يونيو الجاري، كفرصة أخيرة لإقناعه بالتراجع عن المضي قدما في هذه السياسة، لكن المحادثات سرعان ما انهارت.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يصر فيها ترامب، متجاهلا نصائح أقرب مستشاريه التجاريين، على الإسراع للدخول في مواجهة تجارية مع القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، إذ انهارت محادثات مماثلة قادها وزير الاقتصاد الأميركي ستيفن منوشن في بكين قبل أسابيع، حاول خلالها التوصل مع الصينيين إلى توافق يجنب البلدين النزاع.
قوة الصين الهائلة
سيكون على ترامب مواجهة الخطر الأكبر من الرسوم الأوروبية، إذ تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم. ووصلت حدة الخطاب بين الجانبين إلى مستويات غير مسبوقة.
لا يزال مبدأ الحرب التجارية خطيرا عندما يتعلق الأمر بالصين، أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة. والسلع المنتجة في الصين مندمجة في سلاسل التوريد العالمية، كما ترسل الولايات المتحدة إلى الصين منتجات زراعية ومركبات ومعدات بقيمة المليارات من الدولارات كل عام.
وتعطي هذه المعادلة، إلى جانب الطبيعة الاستبدادية لنظامها السياسي، ميزة القدرة على الصمود لفترات طويلة، واتخاذ إجراءات موجعة للأميركيين، ضمن أي حرب تجارية كبرى.
وتستهدف الرسوم الجمركية بقيمة 34 مليار دولار على الصادرات الأميركية، التي أعلنتها الصين منتصف الشهر الجاري ردا على إجراء استهدفت من خلاله إدارة ترامب بضائع صينية بقيمة 50 مليار دولار، صناعات حساسة تقع في مناطق في عمق وسط الولايات المتحدة، وهي مناطق تشكل دعما أساسيا للرئيس ترامب.
وستكون للقرارات الصينية تبعات سياسية مؤلمة على الإدارة الأميركية. وتشمل الرسوم الجديدة مزارعي فول الصويا في ولاية أيوا، إلى جانب صناعة السيارات في “حزام راست” (ولايات غرب الوسط والبحيرات الكبرى)، ومنتجي عصير البرتقال في ولاية فلوريدا.
وبدأت الرسوم المتبادلة تجذب انتباه سكان هذه المناطق بالفعل. ويقول رئيس رابطة منتجي فول الصويا الأميركيين، جون هايسدورفر، إنه “إذا خسرنا الحرب التجارية لصالح الصين، فإن جيراننا في الجنوب سيكونون سعداء لتعويض غيابنا في توريد كل هذه المنتجات”.
لكن ليس كل ما يقوله الرئيس الأميركي خطأ دائما. فالرسوم الأميركية، التي أعلنت في 15 حزيران على صادرات الصين، جاءت بعد ظهور نتائج تحقيقات استمرت لأشهر حول ممارسات الصين التجارية، وكشفت أن الصينيين يتبنون سياسة غير عادلة، بدءا بإجبار الشركات الأميركية على الكشف عن أسرار تكنولوجية وتجارية، وصولا إلى تقديم دعم للشركات الصينية، وهو ما يخل بتنافسية السوق.
ويقول أحد المستشارين التجاريين في البيت الأبيض، بيتر نافارو، إن “الصين تحاول الاستيلاء على أفضل التكنولوجيات الأميركية، وهذا أمر يجب وضعه على الطاولة بجدية”.
وإجراءات ترامب، التي تستهدف صادرات بقيمة 50 مليار دولار، هي الدفعة الأولى فقط. وبعد الرد الصيني، أمر ترامب مستشاريه التجاريين بالتحضير لحزمة جديدة من الرسوم على الصادرات الصينية تقدر هذه المرة بـ200 مليار دولار. وهدد ترامب بأنه سيفرض رسوما على بضائع صينية بقيمة 200 مليار دولار أخرى إن لم تتوقف الصين عن التصعيد. وإذا حدث ذلك فستشمل مجمل تهديدات ترامب صادرات صينية بقيمة 450 مليار دولار، وهو ما يمثل 90 بالمئة من مجمل صادرات الصين للولايات المتحدة.
ويقول الممثل التجاري الأميركي في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، رون كيريك، إن “الصين لديها نهج متوقع وبسيط في التفاعل مع ترامب، يعتمد على الرد السريع والمؤلم عبر تعريفات قوية”.
وأضاف “عندما نصل إلى هذه المرحلة من الإجراءات والإجراءات المضادة، يكون الوضع العام عادة سيئا”.
كما تعني طبيعة النهج المتسارع في الهجوم والدفاع في الحرب التجارية المفتوحة الآن أن كبح جماحها سيكون صعبا للغاية.
وتوقفت مشاورات بين مسؤولين أميركيين وآخرين صينيين من أجل التوصل إلى هدنة.
ويقول نافارو “خطوط هواتفنا مفتوحة طوال الوقت”. ويبدو أن المسؤولين التجاريين الأميركيين يبذلون أقصى ما بوسعهم في محادثات صعبة مع الصينيين، في نفس الوقت الذي يشتبكون فيه مع مسؤولين من كندا والمكسيك ودول الاتحاد الأوروبي.
ويقول كارلوس غوتيريس، وزير التجارة في عهد إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، إن “لدينا الآن جبهات مفتوجة مع أوروبا والصين ودول نافتا”، مضيفا “هذا هو كل الاقتصاد العالمي تقريبا”.
وأول المتضررين من هذه الحرب التجارية هي الشريحة الأوسع من الأميركيين، وليس أي أحد آخر. ويقول خبراء إن مبيعات غسالات الملابس وألواح الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة تأثرت بالفعل.
وارتفعت أسعار غسالات الملابس المنزلية بمقدار 17 بالمئة خلال الثلاثة أشهر الأخيرة بعد أعوام من الهبوط، بحسب مكتب إحصاءات العمالة في الولايات المتحدة.
ويقول تحليل نشرته وكالة أنباء رويترز إن ما قيمته 2.5 مليار دولار من مشاريع الطاقة الشمسية الأميركية تم إلغاؤه بسبب التعريفات الجمركية الجديدة. ورغم ذلك، لا يزال ترامب مصرا على التمسك بأجندته التجارية، رغم تراجعه في العديد من القضايا السياسية الأخرى في أوقات سابقة.
ويعول ترامب كثيرا على سياسة “الضغط على الصين” لحصد المزيد من أصوات الناخبين في القاعدة الداعمة له، كما يأمل أن تقود هذه السياسة إلى فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، المقرر إجراؤها في تشرين الثاني المقبل.
لكن محللين يقولون إن الرئيس الأميركي سيكون في سباق مع الزمن حتى لا تتزامن الانتخابات مع بدء تأثر داعميه اقتصاديا بشكل سلبي جراء سياسات التجارة التي يتبناها. وإذا حدث ذلك فثمة احتمال كبير أن يتحول إلى دبة قتلت صاحبها.