كتب أحمد مغربي في صحيفة “الحياة”:
إنها ساحة النجمة في قلب وسط المدينة في بيروت. هناك كنيسة أرثوذكسيّة عتيقة تجاور آثاراً رومانية عريقة في حفريات تلاصق كنيسة «القديس مار جاورجيوس» المحاذية لمسجد الأمين وقريباً منه قبر رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ويقابله تمثال شهداء «6 أيار»، وهو من رموز الوطنية اللبنانية المستقلة. وتسند الكنيسة العتيقة ظهرها إلى مشهديّة قبر الراحل الحريري وساحة الشهداء، وأمامها شجرتا زيتون صمدتا أمام سنوات الحروب المتطاولة في لبنان. ومن يجلس فيء الزيتون، تقابل عيناه المبنى الأشهر في لبنان: مقر البرلمان اللبناني.
طوال الحديث مع الدكتور اللبناني بيار كرم الذي يصعب وصف الأمل الذي ينبعث من كلماته ويفاعته وتواضعه الأصيل (ككل من تشرّب العلم بوصفه بعداً أصيلاً في حضارة الإنسان، وليس ادعاءات منتفخة)، حضر شبح سؤال مقلق. بدا السؤال كأنه غدر أو يأس مطبق، لا ينسجم مع من كرّمه «المنتدى الاقتصادي العالمي» وأبرزه ضمن خمسين عالماً شاباً في العالم، تساهم بحوثه بأصالة في تطوير العلوم، كما تعمل على تقدم المجتمع. كيف يمكن طرح ذلك السؤال «الغادر» على عالم يجري بحوثاً أصيلة (بمعنى أن أحداً لا يسبقه إليها) نال سلسلة من الجوائز العلمية المرموقة عالمياً قبل أن يقارب سن الأربعين، ولا يشغله ذلك عن السعي لإنشاء منصة إعلامية لنشر العلم لبنانياً وعربياً؟
وإذ دار الحوار مع كرم في مقهى «النجمة» المقابلة للبرلمان اللبناني (ولا تزال تحتفظ بالطاولة التي جلس إليها الراحل رفيق الحريري ليشرب القهوة للمرة الأخيرة قبل اغتياله)، أوضح أنه يعاني صعوبات في الحصول على مال ليشتري آلات ومعدات لبحوثه، بأرقام تقل مئات آلاف المرات (بالأحرى، ملايين المرات) عما تنفقه الدول المتقدمة على بحوث مشابهة في حقل علمي فائق الأهمية والحساسية، لأنه يجمع الطاقة النظيفة والبيئة والبيولوجيا والنانوتكنولوجيا.
الصحافة كانت البداية
ومع ابتسامة لا تفارقه، وحديثه المستمر عن أبيه الزميل الصحافي العلمي المخضرم ميشال كرم الذي غرس فيه حب العلم وإرادة التمسك بالوطن، لم يكن منطقيّاً سؤال البروفسور كرم عن موعد مغادرته إلى المركز العلمي الغربي، الذي احتضن المسار المتقدم لمسار ذلك الشاب، بل لا يزال يتفاعل معه في بحوثه! هل تقدر «جامعة بيروت الأميركية» التي يعمل فيها أستاذاً في الكيمياء وباحثاً في مجال استعمال كيمياء النانوتكنولوجيا للتأثير على البكتيريا الموجودة في النفايات ومياه الصرف الصحي، لاستخراج كهرباء نظيفة ومستدامة؟ إلى متى تستمر قدرة الكنائس والمساجد والزيتون والشهداء والتاريخ الحضاري الغابر، على الاحتفاظ به؟ هل يسير إلى هجرة العقول بتأثير فساد مستشر وطائفية متخلفة، لا يتردد لبنانيين كثر في الإشارة إلى علاقتهما مع طبقة سياسية يذكر بها مبنى البرلمان؟
من الرحيل، استُهِلّ الحوار مع كرم الذي يسافر في أيلول (سبتمبر) 2018 إلى الصين، ليحضر الدورة الـ12 لـ «منتدى دافوس السنوي الصيفي» في مدينة «تياننجين» التي تتناوب استضافته مع مدينة «ديالين» الصينية.
وهناك، يلتقي كرم مع نخبة من قادة السياسة والاقتصاد والشركات العملاقة، إضافة إلى العلماء، وهم يساهمون في رسم مسارات كبرى في العالم. وتكون فرصة لكرم كي يشرح عالمياً أهمية بحوثه وجهوده في العلم والبيئة والطاقة المستدامة والتنمية الاجتماعية.
وفي 2015، خاض كرم تجربة مشابهة عند حضوره الدورة الـ65 لـ «منتدى لينداو للحائزين على جائزة نوبل» الذي تستضيفه الجزيرة الألمانيّة التي يحمل المنتدى اسمها. وآنذاك، نال كرم شرف إلقاء محاضرة مشتركة مع البروفسور برايان شميت الحائز «نوبل» للفيزياء 2011. وفي المحاضرة، شدد كرم على أهمية تمويل الدول للبحوث العلمية التي تستطيع رفع اقتصاديات تلك الدول. هل كان يحدس بأنه سيطالب بالأمر نفسه بعد سنوات قليلة؟ كيف يبدو ذلك في دول عربية لم تكف الألسن منذ عقود عن مطالبتها بدعم البحوث والأموال، وما زال معظمها يتأخر أشواطاً عما تبذله دول أخرى، بل متأخراً عن القدرات المالية الواسعة لكثير من الدول العربية نفسها؟
شَعْر النانوتكنولوجيا يجمع دفق الإلكترونات
حضر كرم المنتدى الألماني بدعم من «الأكاديمية العالميّة للعلوم» التي تهتم أساساً بدعم العلماء في دول العالم الثالث، خصوصاً من تساهم بحوثهم المتألقة في التنمية المستدامة. وأسّس تلك الأكاديمية العالِم الباكستاني الشهير عبدالسلام الحائز جائزة نوبل للفيزياء (1979) عن بحوثه في طاقات الذرّة. وكرمته بلاده، بل تَقَلّد مناصب رفيعة وحساسة علمياً وسياسياً فيها. ولكن ضيق آفاق السياسة، أرغمت عبدالسلام على مغادرة الباكستان إلى بريطانيا التي احتضنت بحوثه أصلاً. مجدداً، أي آفاق في السياسة تتفاعل مع كرم، وكيف تكون مآلاتها؟
وفي حديثه عن إنجازاته العلمية التي أهّلته لتكريم «دافوس» وسلسلة من الجوائز العلمية، يوضح كرم إنجازه المتمثل في صنع خلايا وقود ميكروبية Microbial Fuel Cells، بمعنى أنها تشبه بطاريات متجددة تأتي طاقتها من تيارات كهرباء تخرج من أنواع البكتيريا يجري تعديل تركيبته جيناتها كي تعطي تلك الطاقة. وبأصالة، يبين أن فكرة تحويل الطاقة (بالأحرى، الإلكترونات، مع ملاحظة أن الكهرباء هي دفق من الإلكترونات) التي تنتجها البكتيريا أثناء حرق «طعامها»، بدأت في بريطانيا في 1911. ووصلت إلى تطور حاسم عبر علماء يابانيين وكوريين، لكنها بقيت تعاني من ضآلة التيار، وعدم استقراره.
وفي جامعة ماكغيل بكندا (نال منها الدكتوراه، وبدأ بحوث عما بعدها) نجحت بحوث كرم في صنع مواد كيمياوية تضمن استقرار تلك العملية، إضافة إلى استخدام النانوتكنولوجيا في صنع أسطح تشبه الشعر (لكنه أرهف من الشعرة بكثير) كي تجمع التيارات الواهنة الصادرة عن البكتيريا، فتتحول إلى تيار فعلي يمكن استخدامه عملياً. ولا تحتاج تلك التقنية سوى البكتيريا ومواد عضوية (نفايات، أوساخ…) تتغذى عليها الميكروبات. وتفيد تلك التقنية عينها في معالجة مياه الصرف الصحي، بل يمكن استخدامها لـ «تفكيك» النفايات أيضاً.
سطور قليلة عن جهود دؤوبة
> ولد بيار ميشال كرم في 1984 في بلدة قرطبا (قضاء جبيل، شمال بيروت).
> درس في «مدرسة الوردية» في مدينة جبيل الساحلية، وفيها لاحظ أساتذته شغفه بالفضاء ورحلات القمر، وعلموه الوصول إلى الكتب المناسبة للعثور على أجوبة عن أسئلته.
> في المرحلة الثانوية، جذبته الكيمياء لأنه اعتبر أنها العلم الذي يستطيع شرح تركيبة الجسم المؤلف من مواد كيماوية متنوعة.
> شجعته عائلته على الاتجاه للتخصص في الكيمياء، مع ملاحظة أن والده درس الرياضيات قبل انتقاله إلى الصحافة. وشمل ذلك شراء كتب علمية غير مدرسية، وأشرطة فيديو علمية وغيرها.
> بفضل تفوقه في الشهادة الثانوية، نال منحة دراسية من «الجامعة الأميركيّة- اللبنانيّة»، ما فتح له مجال التواصل مع جامعات أميركية وغربية متنوعة.
> بفضل منحة دراسية أيضاً، نال شهادة الماجستير في الكيمياء من «جامعة بيروت الأميركية»، تحت إشراف البروفسورة لارا حلاوي. وتعلم المنهج العلمي في إجراء التجارب واستخلاص نتائجها، ثم تحدي تلك النتائج إلى أن يتثبت صحتها أو خطأها. وأدى عدوان تموز (يوليو) 2006، إلى انقطاع مفاجئ في إمكان وصوله إلى الجامعة الأميركية. بحوث عن تطوير جزئيات نانوية لمادة البلاتينيوم، تستطيع تحري مستوى السكر في الدم. وأجرى بحوثاً أيضاً عن خلايا الوقود التي تستعمل الماء في استخراج الكهرباء.
> اختار كرم استكمال بحوثه في جامعة «ماكغيل»، بعدما راسل جامعات عدة في أميركا وكندا، استناداً إلى عوامل منها وجود جالية لبنانية كبيرة في مقاطعة «مونتريـال» الكندية، وكذلك إتقانه اللغة الفرنسية السائدة في تلك المقاطعة.
> في «ماكغيل»، عمل كرم مع البروفسور غونزالو كوزا فيSingle Molecule Florescence Microscopy التي تستعمل ضوء الفلورسنس في اكتشاف تركيبة الجزيئة المفردة، بدل عن الإلكترونات المستعملة في الميكروسكوب النفقي. وكانت تلك التقنية في بداياتها. وتألق الثنائي كوزا- كرم في التوصل إلى مراقبة عمل فيروس الكبد «سي»، بمعنى أنهما استطاعا مراقبة الطريقة المتفردة التي يعيد فيها ذلك الفيروس تركيبة أحد البروتينات الأساسية في جيناته، واستطراداً في تكاثره. وتالياً، استطاعا للمرة الأولى البرهنة على أن دواءً معيناً يمكن استخدامه لوقف تكاثر ذلك الفيروس، عبر ضربه آلية تركيب ذلك البروتين. ونال كرم «جائزة المستكشف الشاب» Young Investigator Award في العام 2009، من المؤتمر العالمي البيولوجي الفيزيائي لأمراض الكبد والفيروس «سي». ونال كرم جائزة من ذلك المؤتمر عن أفضل بحث للدكتوراه.
> عمل مع البروفسورة اللبنانية- الكندية هنادي سلمان المختصة في صنع تراكيب لأسطح معدنية باستخدام الحمض الوراثي وتقنيات النانوتكنولوجي. ومهد ذلك الأمر لكرم صنع الأسطح النانوية الملائمة لتجميع تدفقات الإلكترونات من البكتيريا (وهو ابتكر وسيطاً يضمن لها الاستقرار)، كي تصير تياراً كهربائياً.