ظهرتْ المساعي الماراثونية التي أَطْلقها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لإنجاز مهمّته بعد شهرٍ على تفويضه من البرلمان في ضوء حصيلةِ الاستشارات المُلزِمة التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون غداة الانتخابات النيابية في 6 مايو الماضي، وجود «قُطبٍ مَخْفية» تتّصل بالتوازنات السياسية المفترضة داخل آلة الحُكم التي يشكلّها «مجلس الوزراء مجتمعاً»، وهي التوازنات التي تنطوي على حساباتٍ ذات طبيعة إقليمية تتّصل بموقع لبنان ومكانته في المنطقة التي تشهد صِداماً إقليمياً – دولياً بين الشرعيتيْن الدولية والعربية من جهة وبين إيران وحلفائها وأذرعها من جهة ثانية.
ففي اللحظة التي تقف المنطقة برمّتها أمام تحولاتٍ تُعاكِس التمدُّد الإيراني في المنطقة، ومَلامح المتغيرات التي بدأت تطلّ من اليمن والعراق وربما سورية، يَنْخرط لبنان بإعادة تركيب السلطة عبر السعي لتشكيل حكومةٍ جديدة يراد لها المواءمة بين نتائج الانتخابات التي صبّتْ في مصلحة «حزب الله»، واعتبرتْها إيران انتصاراً لخياراتها، وبين قواعد التسوية السياسية وتَفاهُماتها في البلاد على النحو الذي يَضْمن حفْظ التوازن بين المكوّنات الرئيسية وصوْن العلاقات الخارجية للبنان.
وهذه «القطب المخفية» يعكسها الصراعُ الذي يتخذ أسماء حَرَكية عدة في إطار «حرب الفيتوات» المتبادَلة بين اللاعبين الرئيسيين، كاتهام فريق رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر برئاسة الوزير جبران باسيل) بالسعي الى الاستئثار والتسلّط، والكلام عن عقدة تمثيل حزب «القوات اللبنانية» لأنها «تريد أكثر مما تستحقّ»، والإيحاء بتعنُّتٍ يمارسه رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط عبر تَمسُّكه الحاسم بالحصول على كامل الحصة الدرزية (3 وزراء).
واللافت أنه بعدما «شكّل» الفريق الشيعي (حزب الله وحركة أمل) وبنفسه «حصّته» الوزارية، فإن «عض الأصابع» حول مطلبيْ «القوات» و«الاشتراكي» اللذين يرفضهما فريق عون ويدعْمهما الحريري، يبدو مرتبطاً بقواعد حسابيّة تتصل بالتوازنات الكبرى داخل الحكومة العتيدة التي يرجّح استمرارها لأربع سنوات.
وتشير أوساط سياسية لصحيفة “الراي” الكويتية إلى أن حكومة تصريف الأعمال الحالية تتوزّع التوازنات فيها بين 8 وزراء لـ فريق 8 آذار «الصافي»، أي «حزب الله» و«أمل» ومعهما الوزير طلال ارسلان (الدرزي) ووزير من «المردة»، مقابل 9 وزراء هم حصة رئيس الجمهورية (5 أحدهم سني) و«التيار الحر» (4)، فيما حصد ما كان يُعرف بفريق 14 آذار «الصافي» 11 وزيراً (7 لتيار المستقبل: 5 سنّة ومسيحيان، و 4 لـ «القوات»)، إضافة الى وزيريْن لكتلة جنبلاط.
وفي رأي الأوساط ان الحريري، الذي يريد تشكيل الحكومة الجديدة وفق توازنات التسوية الرئاسية التي تفيأتها حكومته الحالية، يسعى مع «القوات» بالدرجة الأولى لتفادي تظهير الحكومة العتيدة على أنها تُستولد في كنف نتائج الانتخابات التي جاهرت طهران باعتبارها نصراً سيُترجم في «حكومة المقاومة»، موضحة أن الرئيس المكلّف بقفْله الطريق على تمثيل «السنّة الموالين لحزب الله» (10 نواب) وحصْر إمكان تخليه عن وزير سنّي بأن يكون من حصة عون على ان يحصل مقابله على وزير مسيحي لتكون حصة الحريري في الحكومة 6 وزراء يحاول رفْعهم إلى 7، يكون حافظ على «حجمه» وزارياً رغم التراجع بعدد كتلته بفعل نتائج الانتخابات «النسبية»، بما سيُبقيه صاحب الحصة الأكبر في الحكومة «بالتعادل» مع تكتل «التيار الحر» (يُعمل على ألا تتجاوز حصته 6 وزراء).
وفي السياق نفسه، فإن «القوات» التي يدعمها الحريري بتَمسُّكها بنيل حقيبة سيادية أو نيابة رئاسة الحكومة من ضمن حصة وزارية لا تقلّ عن أربعة وزراء (عون يطرح عليها 3 بلا أي من المنصبين)، تدرك أهمية ألا يتراجع تمثيلها الوزاري عما كان عليه قبل الانتخابات التي أتاحت لها مضاعفة عدد نوابها لارتباط ذلك في جانب منه بتفادي أي اختلال بتوازنات الحكومة عما كانت عليه في الحكومة الحالية، وهو ما يعلم الحريري و«القوات» أنه سيرتّب تداعيات خارجية. علماً أن دعْم جنبلاط بمطلبه حصْر التمثيل الدرزي به ورفض معاودة توزير ارسلان أو «وزير مشترك» بين الطرفيْن سيجعل «8 آذار» يخسر وزيراً من «حصّتها الصافية».
وتعتبر الأوساط أن هذه الاعتبارات هي التي تجعل «الجولة الأخيرة» من السباق لتشكيل الحكومة الأكثر تعقيداً ودقة، مشيرة إلى أنه منذ إعلان الحريري «فتْح التوربو» وتقديمه تصوره الى عون يوم الجمعة الفائت، نَقَل الكرة عملياً من ملعب أن «الجميع بانتظاره» وجعل الترقب لموقف رئيس الجمهورية حيال حصتيْ «القوات» وجنبلاط، علماً أن مناخ التفاؤل الذي كان سادَ بولادة وشيكة للحكومة وقبل سفر رئيس البرلمان نبيه بري في اليومين المقبلين عاد ودخل في نفق التشكيك الكبير ما لم تحدث مفاجآت كبرى تنقذ هذا المسار من «المصير الصعب».