كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
ليس سرّاً أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتّخذت قراراً وهي ماضية فيه بالضغط بقوة على إيران لإجبارها على الجلوس معها الى طاولة مفاوضات جديدة تطاول في العلن تعديل الاتّفاق النووي، وفي السرّ التفاهم حول ترتيبات عريضة تطاول الساحات المشتعلة في الشرق الأوسط وترتيب المصالح الأميركية في المنطقة اضافة الى المصالح الاإيرانية شرط عدم تعارضها في ما بينها.
الساعة الصفر تحدّدت مع انسحاب واشنطن من الاتفاق في سابقة لم تحصل قبلاً. ففي العادة تحترم الإدارات الأميركية المتعاقبة الاتّفاقات التي كان يتمّ توقيعُها سابقاً تحت مبدأ الاستمراية، وأبرز دليل على ذلك وضع كوبا والاتّفاق السرّي الذي كان قد التزم به الرئيس جون كيندي مع الاتّحاد السوفياتي واستمرّ مع تبدُّل الإدارات الأميركية.
لكن مع وصول ترامب بدا الامر مختلفاً مع إيران. فمن جهة هنالك الواقع الإسرائيلي وضرورة إنجاز تسوية سياسية، خصوصاً في ظلّ استعداد الدول الخليجية لتمويلٍ «سخي»، وهنالك الاهتمام الأميركي باحتواء الصعود الصيني وتمدّده في اتّجاه البحر الابيض المتوسط وصولاً الى أوروبا وأفريقيا.
الأوساط الديبلوماسية الأميركية كانت قد تحدّثت أخيراً، وتحديداً بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، عن أنّ إيران ستجلس في نهاية المطاف حول طاولة المفاوضات.
وفي طهران حصل نقاش واسع بين الفريق المحبّذ للتفاوض مع الادارة الاميركية، وهو في معظمه من الإصلاحيّين، وعلى اساس أنّ المصلحة الإيرانية تقضي بالمحافظة على المكاسب الاقليمية الهائلة لإيران وتثبيتها من خلال اتّفاقات جديدة، وبين الفريق الرافض لذلك استناداً الى أنّ التجربة مع الاميركيين لم تكن مشجّعة بتاتاً وأنّ العقوبات والضغوط مسائل جرّبتها إيران ونجحت بتجاوزها وجاءت الغلبة في النهاية لمصلحة الفريق الثاني والذي يمثله مرشد الثورة السيد علي خامنئي.
على رغم ذلك استمرّت الأجواء الأميركية على تفاؤلها وأنّ إيران ستجد نفسَها في نهاية الأمر مضطرّة الى سلوك طريق المفاوضات وأنّ «الضغوط ما تزال في بدايتها».
ولكنّ الأوساط الاميركية كانت حريصة في كل مرة على التأكيد أنّ هدف الضغوط مهما تعاظمت هو الاتّفاق وليس أبداً الانفجار.
نتائج الضغوط العسكرية حتى الآن زادت من ثقة الفريق الايراني المحافظ بأنه قادر على تجاوز ما يجري التخطيط له. ففي اليمن لم تنجح معركة «الحُدَيدَة» بالمقدار المرسوم لها. صحيح أنه تمّ انتزاع المطار، لكنّ الهدف يبقى المرفأ والحركة الملاحية حيث الرابط القوي للحوثيين مع إيران. كما أنّ الحملة فشلت في إحداث تغييرات ميدانية سريعة وبدا معها أنّ المعركة الكاملة ستكون طويلة، اضف الى ذلك أنّ الحوثيين الذين يقاتلون بشراسة يسيطرون على الجبال المحيطة وهي مواقع استراتيجية وبالتالي فإنه صحيح أنّ الحوثيين خسروا مواقع ميدانية، لكنّ الحرب تبدو طويلة بدلاً من أن تكون خاطفة.
وفي سوريا فشلت إيران أيضاً في تثبيت مواقع جديدة لها بالقرب من خطوط الفصل مع الجيش الإسرائيلي. وذلك بعد أن التزمت روسيا بإبعاد مواقع الإيرانيين و»حزب الله» وحلفائهما مسافة 40 كلم من خطوط الفصل في مقابل المساهمة في معركة درعا والقنيطرة.
وبدا الالتزامُ الأميركي واضحاً حين أبلغ الجيش الاميركي الى الفصائل المسلّحة أنه لن يدعمها عسكرياً في مواجهة تقدّم الجيش السوري المدعوم جوّياً من الطائرات الروسية والذي يسرع في السيطرة على الجزء الجنوبي لسوريا الملاصق لخطوط التماس مع الجيش الإسرائيلي.
لكنّ الضغط الاميركي من خلال القصف الإسرائيلي المتواصل ضد مواقع الإيرانيين في سوريا يهدف الى أبعد من ذلك. البعض يراه أنه في اتّجاه دفع الرئيس السوري بشار الأسد الى الابتعاد عن إيران والارتماء الكامل في أحضان روسيا. بالتأكيد فإنّ لهذا الهدف مصلحة روسية ايضاً وتجلّى التقاطعُ الأميركي ـ الروسي في إحجام الدفاعات الجوّية الروسية عن مواجهة الغارات الإسرائيلية.
وراهنت واشنطن على أنّ مصلحة الأسد هي الارتماء الكامل في أحضان روسيا بالمقارنة مع إيران. لكنّ الواقع أنّ هذا الرهان أخذ في التبدّد، ذلك أنّ النظام السوري يدرك أنّ روسيا فعلياً، وبعد انتهاء المرحلة الانتقالية، قد لا تكون معنيّة بشخص بشار الأسد في مواصلة قيادته لسوريا وفقاً لمبدأ الحسابات والمصالح التي تحكم طبيعة العلاقة بين موسكو ودمشق، على عكس العلاقة بين دمشق وطهران والتي ترتكز على مفهوم ايديولوجي وعقائدي، اضافة الى إدراك الأسد أنّ بقاء العامل الإيراني القوي في سوريا يمنحه مقداراً من الحماية، وحتى المناورة، في وجه الضغوط والمطالب الروسية. لكن يبدو أنّ «الثقة» الأميركية بالقدرة على تليين موقف طهران ما تزال موجودة، والرهان، على ما يبدو، هو على الوضع الداخلي الإيراني.
في العام 2009 وعقب انتخاب أحمدي نجاد رئيساً لإيران اندلعت احتجاجاتٌ عُرفت بـ»الثورة الخضراء» على أثر اتّهاماتٍ بحصول تزوير في النتائج. لكنّ هذه الثورة سرعان ما خمدت بعدما واكبتها وسائل الإعلام الغربية مبدية دعمَها لها. واستنتجت العواصم الغربية أنّ الشارع الإيراني سرعان ما يتوحّد ويتجاوز انقساماتِه في حال تبيّن وجود أصابع وبصمات أجنبية واضحة وظاهرة.
الآن هنالك احتجاجاتٌ على خلفيّة الواقع الاقتصادي وهو محطّ اهتمام ومتابعة وربما أكثر لدى العواصم الغربية. والواضح أنّ توقيت حصول هذه الاحتجاجات قد لا يكون بريئاً وهنالك مَن يربطها بالثقة الأميركية بقبول إيران الجلوس حول طاولة مفاوضات جديدة.
وعلى رغم الحذر الغربي في التعاطي مع هذه الاحتجاجات والتي يصفونها بـ»الجدّية جداً»، إلّا أنّ بعض وسائل الاعلام الغربية تطرّقت الى ما هو حاصل وركّزت على الشعارات السياسية التي يطلقها المحتجّون، مثل: الموت لفلسطين، لا لقطاع غزة، لا للبنان، اتركوا سوريا» بعد أن كانت سابقاً «الموت لإسرائيل وأميركا».
طبعاً تنطلق هذه الهتافات من خلفيات الواقع الاقتصادي، لكنّ تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي افيغدور ليبرمان يختصر المشهد كاملاً، فهو صرّح عبر وسائل التواصل الاجتماعي وباللغة الفارسية متوجّهاً الى الإيرانيين بتحريض واضح: «أين ذهبت أموالكم؟».
وتردّد في الأروقة الديبلوماسية أنّ واشنطن كانت مستاءة منه وأنها أبلغت تل ابيب بذلك.
أما واشنطن فهي تسعى للتأثير على الداخل الإيراني من خلال التحضير لرزمة عقوبات جديدة تؤدّي الى تفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية.
وتتطلّع إيران الى أوروبا التي تريد إنقاذَ الاتّفاق النووي والصفقات التي وقّعتها بمليارات الدولارات. فالصادرات الأوروبية الى إيران ناهزت عام 2017 الـ 13 مليار دولار، في موازاة مشكلات كبرى مع الولايات المتحدة الأميركية.
لكنّ إيران تشكّك بقدرة أوروبا على خرق العقوبات التي تفرضها واشنطن لأنّ علاقاتها الاقتصادية مع الأميركيين أهم بكثير من علاقاتها مع إيران.
فالمصارف الأوروبية ابلغت أنها لن تخاطر في التعرّض لعقوبات أميركية، وبالتالي غير قادرة على حماية الشركات التي تستثمر في إيران وهو ما دفع معظم الشركات الفرنسية الى إلغاء مشاريعها في إيران .
لكنّ المانيا تقود الحملة داخل اوروبا لحماية الاتفاق النووي على اساس أنّ هنالك مَن هو مستعدّ للحلول مكان أوروبا غير شركاته مثل روسيا والصين، وأنّ النزاع الدولي العريض يقضي بوجوب إبقاء النفط والغاز الإيرانيَّين خارج سيطرة روسيا والصين.
وفيما تمّ استبعادُ الشركات الألمانية من عقود في الخليج لمصلحة نظيرتيها الفرنسية والبريطانية، تعمل واشنطن على إثارة العواصم الأوروبية من أنّ خطر الصواريخ البالستية الإيرانية يطاول العمق الأوروبي. وربما هذا ما يفسّر هجوم ترامب المستمرّ على أنجيلا ميركل.
فبرلين تحاول استعادة تجربة حصلت في التسعينات عندما سعت واشنطن لإجبار الدول الأوروبية على الامتثال للعقوبات المفروضة على كوبا ومعاقبة الشركات التي انتهكت العقوبات. لكنّ الاتّحاد الأوروبي نجح في إصدار قانون يمنع الشركات من الامتثال للعقوبات ما أرغم واشنطن على التراجع مقابل تعويضات بسيطة.
في اختصار عضّ الأصابع يشتدّ…