كتبت غادة حلاوي في “الاخبار”:
بقدر ما انتظر أهالي بعلبك البدء بالخطة الأمنية، بقدر ما يرصدون أي تحرّك يشتمّون منه رائحة تواطؤ بين بعض العناصر الأمنية وعدد من المطلوبين أو المخالفين للقانون. أبناء بعلبك مستعدون لتحمّل تبعات تحوّل مدينتهم إلى منطقة عسكرية لبعض الوقت، لكنهم غير مستعدين لغضّ النظر عما يشاهدونه من تجاوزات يرتكبها عناصر وضباط باتوا معروفين بالأسماء والرتب والمراكز. طبعاً، لا ينفي ذلك وجود مسؤوليات على الأحزاب والبلديات وأجهزة السلطة كلها
مع رفع الغطاء السياسي عن كل المخلّين بالأمن في منطقة البقاع الشمالي، ودعوة الأهالي إلى التجاوب مع كل الإجراءات والتدابير العسكرية والأمنية، لم يعد هناك ما يبرر عدم إقدام القوى الأمنية المنتشرة في المنطقة على القيام بواجباتها. هناك قوانين وأنظمة محلية، وكل من يخالفها يجب أن يوضع حد له. لكن ماذا إذا كان الأمن نفسه يحتاج إلى أن يوضع تحت مجهر الناس، وخصوصاً في ضوء الوقائع التي يسردها معظم نواب المنطقة في مجالسهم الخاصة، وكان أشجعهم النائب اللواء جميل السيد الذي تصدى علناً لتجاوزات بعض الضباط والقيادات العسكرية والأمنية في المنطقة. وهذه بعض النماذج التي يتداولها الأهالي في المنطقة.
ملثمة أو «مفيمة»
أول من أمس، وأمام مطعم «السندباد» في بعلبك، وبينما كانت تتحرك قافلة للجيش، تضم ثلاث سيارات هامفي، مرت بمحاذاتها سيارتان، حجب عازل «الفيميه» وجوه الجالسين بداخلهما. جالتا في الساحة ونفذ السائقان ما يسميها شباب المنطقة «تخميسة»(تشفيط) لأكثر من عشر دقائق وأكملا طريقهما من دون أن يتعرض لهم العسكريون الموجودون في المحلة.
ورغم تعميم وزارة الداخلية الذي ألغى رخص «الفيميه» في المنطقة، لا تزال السيارات «المفيمة» تصول وتجول يومياً ومن دون اعتراض، لا من دورية ولا من مخفر ولا شرطي سير، لا بل يتم التعاطي مع هذه السيارات على الحواجز الأمنية باستنسابية، ويروي شهود عيان أن حاجزاً للجيش سمح بمرور سيارة مدنية «مفيمة» بعد فتح صاحبها النافذة قليلاً للعسكري، فيما طلب من السيارة المدنية التي كانت وراءها مباشرة التوقف إلى اليمين للتدقيق بهوية أصحابها.
ومن الملاحظات التي ترصدها العيون المحلية، وجود عناصر أمنية رسمية «ملثمة» بأقنعة سوداء في شوارع مدينة بعلبك، في مشهد لا يرى الأهالي ما يبرره، فهل يعد هذا أمراً طبيعياً أم من ضمن تدابير الأمن الوقائية في المنطقة؟
ماذا عن تسعيرة بطاقات تسهيل المرور الصادرة عن أكثر من جهاز عسكري وأمني، وماذا عن الهويات التي تزوّر لعدد من المطلوبين، وبينهم (ح. ج.) و(ح. ز.) و(أ. ف. ز.) و(ع. إ.)؟ وهل يعقل أن أي جهة أمنية لا علم لها بعمل مؤهل في الجيش اللبناني بات من المتخصصين في تأمين مرور البضائع الممنوعة الى داخل مطار بيروت وإخراجها منه، ويؤمن إطلاق سراح الموقوفين وتقدر ثروته بملايين الدولارات؟ وكيف لرائد في الجيش أن يملك قصراً بملايين الدولارات في علي النهري وهو ابن عائلة ميسورة الحال، في حين تحول زميله المقدم في الجيش الى ثري من الأثرياء في المنطقة، أو أن يقيم بعض المطلوبين مراكز عمل لهم في مزارع تعود ملكيتها لضباط. ولماذا أوقف الضابط (ب. ز.) ثم أطلق سراحه بعد توسط أحد القضاة المعروفين؟
توقيف صغار المرتكبين
في مراجعة سريعة لأسماء الموقوفين، تلفت مصادر مواكبة الانتباه الى أن القوى الأمنية لم تلق القبض لغاية يوم أمس على أحد من كبار المطلوبين، باستثناء ش. ج. الذي قد يخلى سبيله نتيجة المفاوضات الجارية حالياً بين عائلتَي جعفر والجمل، فيما الكبار منهم يلازمون منازلهم في محيط بعلبك، ولا يجرؤ ضباط الجيش في المنطقة على ملاحقتهم أو توقيفهم خشية الفضائح التي قد تتكشف نتيجة لذلك، وإلا ماذا يفسر هذا التعامي المقصود؟
ولو شكل الانتشار الأمني بقعة ضوء في نفق الفلتان الأمني الذي تعانيه المدينة، إلا أن الأمل من نتائجه البعيدة المدى ليس كبيراً بدليل وجود بعض الإشارات الأمنية الخطيرة التي تؤكد عدم وجود نية أو قرار بالذهاب في المعالجة الى أبعد من انتشار أمني تقليدي. إذ كيف يعقل أن خطة أمنية رسمية بدأ تنفيذها في بعلبك برعاية شبكة كاميرات ظاهرة للعيان ركّبها عدد من كبار المطلوبين على أعمدة الإنارة، وذلك على طول الطريق الممتدة من نقطة الكيال الى التل الأبيض، الى حي الشراونة، وصولاً الى محطة الدبس في مدينة بعلبك.
روايات التواطؤ
والمسألة الخطيرة التي تشكل سبباً رئيساً في معاناة بعلبك، حسب أحد أبنائها، هي التواطؤ بين بعض الضباط في الأجهزة الأمنية والعسكرية وكبار المطلوبين. لم يعد الموضوع سراً من الأسرار التي تحتاج الى أدلة وبراهين بالنسبة إليهم، وأي بقاعي يردد أسماء هؤلاء وحكايات تورطهم بالوقائع والأرقام.
تطول اللائحة التي تتحدث عن شبكة ضباط وعسكريين تزوّد المطلوبين بمعلومات قبل أي عملية عسكرية، يقال لهم بواسطة رسائل قصيرة «انتبهوا بكرا عنا شي». عبارة كافية لتمكينهم من الهرب وتأمين تواريهم باتجاه سوريا أو أن يتحولوا إلى طفار في بعض النقاط الجردية.
الظاهرة اللافتة للانتباه تتعلق ببعض الضباط والعسكريين المعنيين بملفات ملاحقة مطلوبين. فجأة، تطل مظاهر الثراء على هؤلاء بشكل لا يتناسب وأوضاعهم الوظيفية ومهماتهم. صار بعضهم من ملاكي المنازل الفخمة في قراهم أو حيث يقيمون في العاصمة والضواحي. لن يكون غريباً فتح قنوات اتصال بين ضباط ومطلوبين، حتى إن بعض المقاهي في المنطقة صارت شاهدة على لقاءات بين الطرفين.
وثمة حديث عن مئات مذكرات التوقيف لمطلوبين يتم مسحها من النشرة مقابل مبالغ مالية يتقاضاها ضابط أمني أو حتى عنصر عادي. وهل يعقل أن تكون تكلفة حماية شبكة توزيع المخدرات في بيروت بحدود 10 آلاف دولار شهرياً يتقاضاها من كان يفترض أنهم المعنيون بمكافحة هذه الآفة؟ ولماذا لم نسمع منذ بدء تنفيذ الخطة الأمنية حتى الآن عن إقفال أي معمل لتصنيع حبوب الكابتاغون، رغم وجود ما لا يقل عن عشرين معملاً في المنطقة؟
وماذا عن صحة الرواية التي يتناقلها البعض عن تقاضي أحد الأمنيين مبلغ 100 ألف دولار بدل تغيير هوية تاجر مخدرات، والأغرب أن العسكري الذي أوقف المطلوب على الحاجز تم تأنيبه لتوقيفه شخصاً آخر غير مطلوب، فضلاً عن مسؤول أمني كان يحوّل الحواجر الأمنية الى خطوط تهريب الى سوريا في أوقات معينة، مقابل مبالغ مالية، في حين كان يتولى أحد كبار الضباط نقل المخدرات بعد مصادرتها في بيروت لبيعها في مناطق أخرى. ويذكر الأهالي جيداً أن مسؤولاً سياسياً آوى قبل مدة من الزمن مطلوباً ومنع القوى الأمنية من تفتيش منزله إلا بعدما حضرت سيارته «الممنوعة من التفتيش» وهرّبته.
شيوخ الصلح
المفارقة التي تسري على مناطق لبنانية عدة، أن معظم السياسيين وأصحاب النفوذ صار لسان حالهم نقل عسكري بقاعي من منطقة خدمته خارج البقاع إلى بلدته. صارت معظم المخافر بضباطها وعناصرها تعجّ بأبناء المنطقة. كيف يمكن لابن عائلة عادية أن يوقف ابن عشيرة كبيرة؟ ينزع العسكري هيبته لمصلحة العشيرة والعائلة. هذه تقتضي من المؤسسات العسكرية والأمنية أن تنفض معظم الطاقم القيادي في البقاع الشمالي وأن تجعل أغلبية الممسكين بأمن المنطقة هم من خارجها. يقول أحد النواب السابقين «لازم تحمرّ عين الأجهزة الأمنية اللبنانية، تماماً كما كان يفعل الضباط السوريون في عز مرحلة الوصاية».
الأنكى عندما تطلب الجهات الأمنية الرسمية من «المصلحين» حل المشاكل الأمنية. «اتصل بفلان هوّي بيحلّها»، على أن هذا الفلان غالباً ما يكون شخصية سياسية أو أمنية، أو تطلب من أحد أعضاء لجان الصلح التدخل للمصالحة بين الطرفين المختلفين مقابل تسعيرة معينة أو دعوة إلى غداء أو قطعة سلاح هدية.
وهذه من المشاكل التي تسقط هيبة الدولة، حيث تلعب لجان الصلح دور الدولة والقاضي، لينتهي الأمر بأن لا أحد ينال عقابه، وليخلص الحريصون على المنطقة إلى القول: «ليس بالانتشار الأمني وحده يعمّ الأمان».