Site icon IMLebanon

فداء عيتاني والثور الأبيض (بقلم رولا حداد)

ليس فداء عيتاني أول صحافي يتم الادعاء عليه في لبنان، ولن يكون الأخير حتماً. وليس فداء عيتاني أول صحافي يحكم عليه بالسجن، فالكبير الراحل غسان تويني دخل السجن في الماضي بسبب مقالة، رغم الاختلاف في حجم الصحافيين وفي الظروف.

المشكلة في قضية فداء عيتاني تكمن في جوانب متعددة، منها ما يتعلق بالقانون ومن السهل تعديله، ومنها ما يتعلق بجوهر مفهوم الديمقراطية واحترام حرية التعبير وهنا يبدو الوضع شديد الخطورة في لبنان.

في القانون ثمة نقطتان تحتاجان إلى تعديل سريع: الأولى تتعلق بالإبقاء على “حصانة” الصحافيين عبر منع الإحكام عليهم بالسجن كما هي الحال في قانون المطبوعات، لكن “تذاكي” الاجتهادات القضائية عبر السماح بمحاكمة صحافيين بسبب آراء على مواقع التواصل الاجتماعي في المحاكم الجزائية وخارج محكمة المطبوعات، سمح بالقفز فوق قانون المطبوعات والعودة إلى الانتقام من الصحافيين عبر استصدار أحكام بالسجن غير مبررة قانوناً سوى بالانصياع إلى رغبات السياسيين بتصفية الحسابات مع بعض الصحافيين.

وأيضاً في القانون نقطة هامة كان طرح وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال ملحم رياشي تعديلها وتتعلق بسقوط عقوبة القدح والذم في حال ثبوت الجرم على الشخصية المدعية، بمعنى أنه لا يجوز محاكمة صحافي بتهمة القدح والذم إذا اتهم سياسياً أو موظفاً على سبيل المثال بأنه “فاسد” أو “سارق” وتمكن من إثبات اتهامه بالوقائع والمستندات، لأن القانون الحالي لا يلغي جرم القدح والذم حتى لو كان الاتهام صحيحاً!

إذا من السهل تعديل القانون متى تصدق النيات في اتجاه ممارسة حقيقية للديمقراطية واحترام قدسية حرية التعبير، وخصوصاً للصحافيين والإعلاميين الذين يفترض أنهم يشكلون “السلطة الرابعة” في النظام الديمقراطي، وهنا نصل إلى جوهر المشكلة التي يعاني منها لبنان.

في لبنان يسعى جميع السياسيين إلى أن تكون كل السلطات في خدمتهم، السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية، والإعلامية حتماً وربما في الدرجة الأولى.

في لبنان نصوص دستورية وقانونية عن نظام ديمقراطي يحمي حرية التعبير لكن الممارسة في الواقع تعبر في جوهرها عن أبهى حلل الإقطاع السياسي تحت مسميات عائلية وحزبية تسعى لإخضاع الجميع، فلا مبرر لصحافة وإعلام ما لم يكن لتبجيل السلطة الحاكمة وتفرعاتها العائلية والحزبية، ولا مبرر لحرية الكلمة ما لم تكن لمديح الجالسين على الكراسي.

وهنا يصبح السؤال مشروعاً: كيف يمكن للصحافيين والإعلاميين أن يقوموا بدورهم في “الرقابة” على أهل السلطة والسياسة تجاه الرأي العام إذا كان سيف السجن مسلطا عليهم بغلاف قضائي؟ وكيف يمكن كشف أي فضيحة، أي فساد، أي سرقة، أي صفقة، أي هدر، أي تقاضي عملات، أي إساءة لاستعمال السلطة… إذا كان من يكشفها سيحاكم بتهمة القدح والذم وغيرها من الأحكام الجزائية؟

كيف يمكن الحديث بعدها عن حرية الإعلام والصحافة؟ وكيف لا يتم عندها “إخضاع” أهل القلم والفكر والرأي؟

هل كل ما تقدم يعني أن الصحافيين والإعلاميين هم فوق القانون؟ حتماً لا، لكن لا يجوز أيضاً أن يكون السياسيون فوق القانون لا بل أن يكون القانون والقضاء في خدمة السياسيين لقمع وسجن كل من يعارضهم أو يخالفهم الرأي أو يفضح فسادهم. بهذا المعنى يمكن فهم قضية الحكم على فداء عيتاني على أنها ليست محاسبة قضائية على شتيمة وقعت بل عملية ترهيب لكل صحافي وصاحب رأي تسول له نفسه أن يقف ضد السلطة بكل تشعباتها.

بهذا المعنى لم تترك السلطة لنا أي خيار سوى أن نكون كلنا فداء عيتاني، بغض النظر عن مدى اختلافنا في السياسة وفي الممارسة مع فداء، إنطلاقا من إيماننا بأن حرية التعبير مقدسة وبأن عقوبة السجن بسبب الرأي ولو كان شتيمة من مؤشرات تخلف الدول وانتهاك الحريات، وعلى من يدافع عن الحكم بحق عيتاني أن يتذكر دائماً المقولة الشهيرة: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”…