كتبت سناء الجاك في صحيفة “الشرق الأوسط”:
يدفع اللبناني ما يقارب 300 دولار شهرياً لتأمين مياه الشرب والطبخ والاستعمال المنزلي. ومنذ نحو 15 عاماً بات مألوفاً ومتزايداً تنقل صهاريج المياه على اتساع مساحة لبنان. وما إن يطل الصيف ويطل معه موسم شح المياه الذي يستمرُّ حتى فبراير (شباط)، تصبح هذه المادة الأولية للحياة سلعة ثمينة في الأسواق السوداء، وأغلى من النفط أحياناً في زمن الخوات والمافيات.
وفي بعض المناطق لا يرتبط موسم الشح بكمية الأمطار، فالمياه لا تصل إلى المنازل لأيام أو أسابيع والشبكات مهترئة أو مخربة بفعل فاعل، والموظف الذي يخالف مشيئة من يتحكم بهذه التجارة يتم الاعتداء عليه… والمراجعات لدى الجهات المختصة في المديريات لا تنفع، ما يضطر الناس إلى شراء ما يُسرَق منهم. و«مافيات الصهاريج» تتحكم بالأسعار وفق بورصة العرض والطلب.
وتتراوح هذه الأسعار بين سبعة وعشرة دولارات لكل 2000 لتر حسب المناطق، لتصل إلى 37 دولاراً في عز الأزمة، والكمية لا تكفي إلا ثلاثة أيام، لتضطر عائلة متوسطة إلى شراء المياه عشر مرات في الشهر، ودفع نحو 300 دولار، هذا عدا مياه الشرب.
ويؤكد رئيس لجنة الطاقة البرلمانية النائب السابق محمد قباني لـ«الشرق الأوسط» أن «في لبنان كميات مقبولة من المياه العذبة لكنها تذهب إلى البحر، لأن الإدارة غير سليمة. ومع (موسم الشحائح) ينشط موسم الصهاريج، مع الإشارة إلى أن 80 في المائة من مياهها ملوثة».
ويعود قباني إلى ثلاثين عاماً مضت، فيوضح أنه «عمل في عام 1980 على مشروع جر مياه من الدامور إلى بيروت بتمويل من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، خلال الحرب الأهلية». ويرى قباني أن «حاجة الناس إلى المياه هي ما يشجع مافيات الصهاريج على التحكم والاعتماد على الحماية ودفع الرشى لمن يسهل لهم أعمالهم من سياسيين وأمنيين ومرجعيات إدارية لهذه المافيات… والدليل على توفر المياه هو تأمين أصحاب الصهاريج لها من الآبار والأنهار في محيط المناطق العطشى».
أحد أصحاب الصهاريج يرفض كل الاتهامات، ويشدد على أنه «يخدم المحتاجين إلى المياه»، مؤكداً أن العلة عند الدولة الفاسدة العاجزة عن تأمين أدنى مستلزمات الحياة لكل المواطنين وهو منهم. بالتالي عندما تتوفر هذه المستلزمات لن يحتاج أي لبناني إلى شراء أو بيع ما يفترض بالدولة أن تؤمنه. ويقول أنور ضو، رئيس تحرير موقع «غدي نيوز» المهتم بمشكلات البيئة في لبنان، لـ«الشرق الأوسط» إن «الفساد هو المروج الأكبر لهذه التجارة، التي لم تعد تقتصر على مافيات الصهاريج، لأن كل من يريد يستطيع حفر بئر أو استخدام المستنقعات والبرك وملء خزان شاحنته وبيعها للناس؛ فرئيس بلدية إحدى المناطق الجبلية وبعد انقطاع لأسابيع اكتشف أن تخريباً متعمداً لشبكات المياه أوقف الضخ عن المنطقة تسهيلاً لبيعها إلى الناس، فتابع القضية مع الجهات المختصة، إلا أن الملف نام في الأدراج».
ويضيف ضو أن «موظفاً في المؤسسة وقع في الغرام، ولري قرية الفتاة التي أحبها قطع الماء عن القرى المجاورة. كما أن الأقفال العشوائي لعيارات المياه سياسة لا بد منها لسرقة ما دفع المواطنون ثمنه للدولة ومن ثم بيعها لهم مرة ثانية، أو لتأمين حاجة الري للمشاريع الزراعية والمسابح. وكله بثمنه».
ولمعالجة هذا الواقع، يقول قباني إن «الحل يحتاج إلى عدة مستويات من المعالجة». ويؤكد أن «لبنان لا يحتاج إلى 50 سداً كما يروج اليوم، إنما تكفيه بضعة سدود صغيرة متدرجة على المنحدرات تسهل عملية تشرب الأرض بالأمطار شتاءً وتُسهِم بتغذية الآبار الجوفية وتحول دون هدر المياه عبر وصولها إلى البحر، وتتراوح تكاليف هذه السدود من 200 ألف دولار إلى مليون دولار بالحد الأقصى وفقاً لحجمها».
ويرى أن «مشروع جر المياه من نهر الأولي في صيدا (جنوب لبنان) بالتزامن مع استكمال سد الخردلي يؤمن المياه بنسبة 65 في المائة لكل لبنان، لأن التغذية بعد إنجاز المشروعين تبدأ من الدامور وصولاً إلى بيروت وتمتد شمالاً لتشمل المنطقة الساحلية. والمفروض إذا كان القيمون جديين أن ينتهي العمل على المشروع خلال أربع سنوات». كذلك يشير إلى ضرورة تحديث شبكات المياه، وحفر الآبار قرب الأنهر وتغذيتها من مياه الشفة خلال مواسم الأمطار.
لكن ضو يؤكد انعدام الثقة بمشاريع الدولة، ويقول: «سد القسيماني في منطقة المتن من جبل لبنان الذي بلغت تكاليفه نحو 21 مليون دولار لم يجمِّع المياه لسنتين متتاليتين، إضافة إلى أنه قطع المياه النقية لشلالات حمانا بحجة تكريرها. أما سدّ شبروح في كسروان فهو وبكل تأكيد يهدر كل ثانية 200 لتر من المياه بسبب الأرض الكلسية التي لا تحفظ المياه تحته… وسد جنة لا يختلف عن غيره».